الدرس التاسع: أخطاء التصميم الخوارزمي — أين تنحرف الخوارزمية مع وضوح خطواتها؟
حين تقف أمام خوارزمية مرسومة بدقة على الورق، بخطوات مرتَّبة وعبارات سلسة، يبدو لك المشهد للوهلة الأولى كأنه مسار واضح لا يحتمل الخطأ. تشعر أن الطريق مضبوط بعناية إلى درجة تجعل الانحراف مستحيلًا، وأن كل خطوة تنسجم مع التي تليها كما تنسجم قطع ممرّ مرصوف بعناية. لكن كلما تعمّقت في علم الخوارزميات اكتشفت أن الخطأ لا يسكن ظاهر الخطوات، بل يختبئ في طريقة التفكير التي شكّلت هذا الطريق. والخوارزمية، في حقيقتها، لا تكشف مهارة المصمم في الكتابة بقدر ما تكشف عمق فهمه للمشكلة التي يعالجها.
وتبدأ في رؤية هذا الأمر حين تتقدم إلى طريق يبدو لك مستقيمًا، ثم تلاحظ بعد السير فيه أنه ينحرف قليلًا، ثم أكثر، حتى تجد نفسك في مكان لا يشبه الهدف الأصلي. لم تنكسر أي قاعدة، ولم تتغيب أي خطوة، لكن الطريق نفسه لم يُبنَ على رؤية صافية منذ البداية. وهكذا تعمل الأخطاء الخوارزمية: لا تأتي في العادة من خلل ظاهر، بل من انحرافات صغيرة في التفكير الخوارزمي الأولي. خمس انحرافات رئيسة تتكرر حتى لدى من يحسنون كتابة الخطوات، لكنها تظهر حين لا يزال المصمم في مرحلة بناء عقله الخوارزمي.
يظهر الانحراف الأول حين تُصاغ الخوارزمية بطريقة تبدو صحيحة لكنها لا تخدم حقيقة المسألة. فقد يرسم المصمم خطوات رائعة الشكل، واضحة التتابع، ومنظمة الترتيب، ثم يكتشف أنها تجيب عن سؤال غير السؤال المطلوب. يحدث هذا حين يُفهم جوهر المشكلة فهمًا مبتورًا، أو تُبسَّط المسألة إلى درجة إضعاف تفاصيلها، أو تُضاف خطوة جانبية تبدو مفيدة لكنها تجرّك من الطريق الرئيسي إلى طريق فرعي لا يؤدي إلى الهدف. وفي المقابل قد تُحذف خطوة أساسية ظنًا أنها “تفصيل بسيط”، لكنها كانت حجر الأساس في الوصول إلى النتيجة. وهكذا تُنتج خوارزمية تعمل، لكنها لا تُلبّي المطلوب، كمسافر يسير على طريق ممهد لكنه يؤدي إلى مدينة أخرى.
ويأتي الانحراف الثاني من ترتيبٍ غير مُحْكَم للشروط. فالشروط هي بوابات الطريق؛ عند كل بوابة يتحدد اتجاه جديد. ويكفي أن تُفتح بوابة في غير وقتها حتى يدخل المسار في منطقة مغلقة. يحدث الخطأ حين تُختبَر حالة ثانوية قبل حالة رئيسة، أو تُغفل بوابة يجب أن تكون عند البداية، أو يُسمح للدخول في مسار لا يجب فتحه في هذا التوقيت، أو يُغلق طريق كان يجب أن يبقى مفتوحًا. الإنسان يستطيع أحيانًا أن يعدّل مساره في الطريق اعتمادًا على خبرته، لكن الخوارزمية لا ترى إلا ما كتبته لها. ولهذا لا يمكن التعامل مع الشروط على أنها إضافات تُدرَج في آخر التصميم، بل هي عصب التفكير الخوارزمي: إذا اختل ترتيبها تضيع الخوارزمية مهما بدت خطواتها منضبطة.
ويظهر الانحراف الثالث حين يتسلل الانحياز الخوارزمي إلى التصميم. وليس المقصود هنا الانحياز الأخلاقي أو الإحصائي، بل انحياز ناتج من افتراضات غير معلنة يسلك المصمم طريقها دون أن يشعر. قد يفضّل مسارًا بلا سبب منطقي، أو يفترض ترتيبًا للعناصر لا يضمنه الواقع، أو يبني قراره على حالة يتصور وجودها لكنها غير موجودة، أو يستبعد احتمالات لأن ذهنه لم يتوقف عندها. وهذا الانحياز يشبه طريقًا يَتِيْهُ بك لأنك ظننت أن المنعطف سيقودك إلى مكان مألوف، مع أنه لم يكن كذلك. المهمة هنا ليست تصحيح الشيفرة، بل تصحيح النظرة الأولى للمشكلة.
ويأتي الانحراف الرابع حين تُترك الخوارزمية بلا نقطة توقف واضحة. كل طريق يحتاج إلى لوحة تقول لك: “هنا تنتهي الرحلة.” وحين تغيب هذه اللوحة تبدأ الخوارزمية بالدوران في حلقة لا تنتهي، أو تسير في مسار لا يعرف نهايته. يظهر هذا حين يُفترض أن النهاية ستأتي “طبيعيًا”، أو حين يُكتب شرط توقف لا يغطي جميع الحالات، أو حين يواصل متغيّر الازدياد أو النقصان بلا ضابط. لا يعني غياب التوقف تعطل التنفيذ فقط، بل يعني أن المصمم لم يحدد هدف الطريق تحديدًا صريحًا. فطريق بلا نهاية هو طريق بلا غاية.
أما الانحراف الخامس فهو الانفجار في المسارات. يحدث حين يحاول المصمم أن يجعل الخوارزمية تغطي كل احتمال، وكل تفصيل، وكل حالة مهما كانت نادرة، حتى تتحول الخوارزمية إلى شجرة متشابكة لا يمكن صيانتها. يشبه الأمر طريقًا تتفرع عند كل خطوة إلى خمسة طرق أخرى، ثم تتفرع هذه الطرق بدورها، حتى تصبح الرحلة داخل المسار نفسه أصعب من حل المشكلة ذاتها. لا يأتي هذا الانفجار من ضعف كتابي، بل من رغبة مبالغ فيها في تتبّع كل شيء. والنضج الخوارزمي يبدأ حين ندرك أن المشكلة لا تحتاج دائمًا إلى مئة مسار، بل إلى مسار واحد منضبط، وقدر معقول من الشروط، وترتيب واضح للأولويات.
وعندما تتأمل هذه الانحرافات تدرك أنها ليست أعطالًا تقنية، بل مرايا تعكس طريقة التفكير قبل أن تكشف مستوى الكتابة. والمصمم الذي يتعلم أن يقرأ هذه المرايا يصبح قادرًا على التنبؤ بمواضع الانحراف قبل وقوعها، وعلى محاكمة الخوارزمية كما يحاكم فكرة ذهنية، وعلى التعامل مع التصميم باعتباره عملية تنمية دائمة لا مجرد رسم أولي نهائي. وعند هذه اللحظة تبدأ في رؤية الخوارزمية لا كسطر مكتوب، بل كطريق فكري يتشكل، يعاد بناؤه، وينضج مع الوقت.
مركز علوم الدولي (د. عبدالرحمن الزراعي)
__________________
ما مستوى استيعابك للدرس