الدرس الثامن: فلسفة الخوارزميات — كيف يتحوّل التفكير إلى منهج؟
حين تقترب من نهاية رحلة الخوارزميات، وتعيد النظر في المسار الذي قطعته، تبدأ في رؤية شيء مختلف. لم تعد الخوارزمية في ذهنك مجرد تعليمات تُكتَب للحاسوب ولا خطوات تتتابع على الورق، بل بدأت تلمح خلفها فلسفة تفكير، طريقة ينظّم بها العقل العالم قبل أن يحاول الحاسوب تنظيمه. وفي اللحظة التي تكتشف فيها هذا البعد العميق، تشعر أنك لا تتعلم خوارزمية جديدة بقدر ما تتعلم طريقة جديدة للنظر إلى المشكلة.
وتبدأ الصورة في الوضوح حين تتأمل كيف يولد أي حل داخل ذهنك. فأنت لا تبدأ من التفاصيل، ولا تقفز مباشرة إلى النتيجة، بل تبحث أولًا عن طريق. ترى المشكلة مثل فضاء واسع يحتاج إلى ترتيب؛ تحاول رسم نقطة البداية، ثم تتساءل عن موضع الخطوة الأولى، ثم عن تسلسل الخطوات التالية، ثم عن أقصر مسار يصل بك إلى النهاية. هذا الميل الطبيعي لتنظيم الفوضى هو البذرة الأولى التي ولدت منها الخوارزمية. فمنذ أن بدأ الإنسان يخطط ويقسم ويعيد ترتيب الأشياء من حوله، كان يمارس أول الأسس التي ستُبنى عليها الخوارزميات: الرغبة في أن يكون لكل شيء منهج.
وفي مستوى آخر من التفكير تظهر الحاجة إلى الثبات. فالعقل لا يكتفي بأن يجد حلًا، بل يريد حلًا يمكن الاعتماد عليه. والخطوة التي تنجح اليوم يجب أن تنجح غدًا ما دامت الظروف نفسها. لهذا لا تُكتب الخوارزمية إلا عندما تكون الخطوات واضحة، ثابتة، قابلة للتكرار. وهذا الثبات ليس مجرد خاصية تقنية، بل هو مبدأ فلسفي عميق: أن يكون للحل شكل يمكن الوثوق به، وأن يتحول التفكير من حالة السيولة والغموض إلى حالة من الانضباط يمكن للحاسوب تنفيذها دون تردد. هنا تظهر الخوارزمية بوصفها وعدًا منطقيًا، لا مجرد سلسلة تعليمات.
ومع هذين الأساسين -التنظيم والثبات- يظهر أساس ثالث يحكم كل خوارزمية ناجحة: حبّ الطريق المختصر. فالتاريخ البشري كله هو محاولة مستمرة لإيجاد الطريقة الأكثر كفاءة لإنجاز العمل. لم يكتفِ الإنسان يومًا بالوصول إلى النتيجة، بل كان يبحث عن أقصر طريق إليها، أقلَّ جهدًا، أقل تكلفة، وتدرّج في هذا الميل حتى أصبح جزءًا من فلسفة الخوارزمية نفسها. فالخوارزمية الجيدة ليست التي تعمل فقط، بل تلك التي تختصر الطريق، وتختزل الجهد، وتنسجم في مسارها مع طبيعة المشكلة. وهكذا وُلدت فكرة الكفاءة الخوارزمية، التي تنظر إلى الحل عبر منظور جديد: ليس “كيف أصِل؟” بل “كيف أصِل بأفضل طريقة ممكنة؟”.
وحين تصل إلى لحظة كتابة الخطوات، تجد أن عقلك نفسه يقوم بعملية دقيقة تبدو بسيطة في ظاهرها لكنها جوهرية في حقيقتها. تبدأ بتحديد ما يجب فعله، ثم تقسّم ما يجب فعله إلى وحدات صغيرة، ثم ترتب هذه الوحدات بحيث تقود إلى الحل. في هذه اللحظة تتحول الفكرة الكبيرة إلى أسئلة صغيرة، وهذه الأسئلة إلى خطوات، وتعود الخطوات فتجتمع في بناء واحد. هذه الحركة الذهنية -من الفكرة إلى الخطوة- هي الفلسفة التي تشكّل قلب الخوارزمية. إنها الجسر الذي ينتقل فيه التفكير من مجرّد إحساس بأن “هناك حلًا ما” إلى طريق مرسوم يمكن السير عليه بثقة.
وتزداد هذه الفلسفة وضوحًا حين تدخل عالم الذكاء الاصطناعي. فالبيانات، مهما كثرت، لا ترتّب نفسها. والنظام، مهما كان ذكيًا، لا يعرف طريقه وحده. بل يعمل على أساس منطق داخلي يحدد كيف يرى المعلومة، وكيف يبحث عنها، وكيف يقيس الخيارات، وكيف يختصر المسار. في كل مرة يتخذ النظام قرارًا، فإنه ينفّذ فلسفة خوارزمية مكتوبة مسبقًا: كيف تقارن الأشياء؟ ولماذا تفضّل هذا المسار على ذاك؟ وكيف تفسّر النتيجة؟ وهكذا تكتشف أن الخوارزمية ليست مجرد جزء في النظام، بل اللغة التي يفكر بها النظام نفسه.
ولهذا السبب تأتي الفلسفة في نهاية هذا المرتكز، لأنها المبدأ الذي يجمع كل ما تعلّمته. إنها اللحظة التي تدرك فيها أن الخوارزمية ليست مجرد أداة تُعطيها للحاسوب، بل هي طريقة لتدريب عقلك على رؤية المشكلات. وما دمت قادرًا على رؤية المشكلة بطريقة جديدة، فأنت قادر على صياغة منهج لها، وتحويل الحدس إلى خطوات، والغموض إلى طريق واضح. وعند هذه النقطة تصبح قادرًا على قراءة الخوارزمية، ونقدها، وتحسينها، حتى إن لم يكتب سطرًا واحدًا من الشيفرة.
وهكذا يتضح لك الهدف العميق من مرتكز الخوارزميات: أنه لا يعلّمك كيف تكتب تعليمات للآلة فحسب، بل كيف تُعيد ترتيب العالم داخل عقلك، وكيف تحوّل التفكير من حالة المجرّد إلى حالة المنظّم. إنها فلسفة رؤية قبل أن تكون تقنية كتابة، وهي التي تمنح الذكاء الاصطناعي المنطق، وتمنح المتعلّم القدرة على التفكير بمنهج لا يتأثر بالفوضى مهما اتسع مداها.
مركز علوم الدولي (د. عبدالرحمن الزراعي)
________________
ما مدى استيعابك للموضوع