الدرس العاشر: 🧩 النماذج متعددة الوسائط - حين ترى وتسمع وتتحدث الآلة
عندما تبدأ بالاقتراب من هذا الجيل الجديد من النماذج، تشعر كأنك تدخل إلى قاعة واسعة يتداخل فيها الضوء بالصوت بالصورة، كأنك لم تعد تقف أمام آلة لغوية صامتة، بل أمام شيء يشبه الحضور الذي يلتقط العالم من أكثر من منفذ. لم يعد المشهد محصورًا في النص وحده؛ هناك صورة تُطلّ عليك من جهة، وصوتٌ يمرّ في الخلفية، ولقطة فيديو قصيرة تتحرك في الزاوية. وعندما تضع السؤال، تشعر بأن النموذج لا يكتفي بقراءة كلماتك، بل ينظر إلى الصورة التي وضعتها، ويستمع إلى نبرة الصوت، ثم يجمع هذه الإشارات المتباعدة ويعيد نسجها في فهمٍ واحد، كأنّ الحواس الرقمية كلها تجلس في طاولة مستديرة وتتبادل الرأي قبل أن تُخرج الجواب.
وعندما تمشي قليلاً داخل هذا الفضاء، تلاحظ أن العلاقة بين الوسائط لم تعد علاقة شرحٍ أو تعليق، بل علاقة فهم مشترك؛ الصورة لم تعد «شيئًا مرئيًا» وحدها، بل تتحول إلى معنى لغوي، والنص لا يبقى حروفًا، بل يتحوّل إلى مشهدٍ تتخيله العين، والصوت لم يعد موجةً عابرة، بل دلالة تكشف حالة المتحدث ونبرته، حتى يبدو لك أن النموذج يرى أكثر مما يُقال، ويسمع أكثر مما يبدو، ويمسك بالخيط الخفي الذي يربط بين العناصر دون أن يضيع في تفاصيلها. وكأنك تقف أمام عقل رقمي واحد يحاول أن يتعلم الطريقة التي نعيش بها نحن البشر: لا يقرأ العالم من قناة واحدة، بل من تداخل الحواس وتزامنها.
ومع كل خطوة أخرى، يتسع المشهد. ترى نموذجًا يتعامل مع صورة أشعة يصحبها تقرير طبي، فيجمع بين الدلالتين كما يفعل طبيب يوازن بين ما يراه وما يقرأه. وتشاهد نموذجًا آخر يصف لوحةً فنية لا عبر ألوانها فقط، بل عبر الإحساس الذي تحمله، فيصوغ نصًا كأنّ كاتبًا يقف في داخله. وترى نموذجًا ثالثًا يسجّل صوتًا مشوشًا في بيئة مزدحمة، ثم يفككه ويعيد جمعه حتى يكاد يُخرج لك منه وجه المتحدث ونبرة حالته. تشعر عندها أن هذه النماذج لا تكتفي بأن «تفهم» الوسائط، بل تفهم علاقتها بعضها ببعض، كأنها تبحث عن اللغة المشتركة التي تسكن بينها جميعًا.
ثم تمشي أبعد من ذلك، فتجد نفسك أمام فكرة جديدة: لم تعد الآلة حبيسة وسيطٍ واحد، بل أصبحت كائنًا رقميًا ينظر إلى العالم بعيونٍ مختلفة في اللحظة نفسها. وهنا تدرك أن النماذج متعددة الوسائط لا تحاول فقط محاكاة اللغة أو الصورة أو الصوت، بل تحاول محاكاة التجربة نفسها؛ التجربة التي تجعل الإنسان يربط بين ما يراه وما يسمعه وما يفكر به دون أن يشعر بالحدود التي تفصل هذه الحواس. وهنا يصبح النموذج قادرًا على تفسير مشهد فيديو، ثم كتابة وصفٍ له، ثم تحليل الحوار المرافق له، ثم الإجابة عن سؤالٍ يتعلق بتفاصيل لم تُذكر في النص ولا ظهرت في الصورة إلا تلميحًا. إنه لا يصف الأشياء فقط، بل يستنتج ما بينها.
وفي عمق هذا المشهد، نكتشف أن التحول لم يكن تقنيًا فحسب، بل مفهوميًا أيضًا. فالنموذج الذي كان يعمل داخل حدود النص أصبح الآن يتحرك داخل عالم كامل. كان في السابق يتلقى جملة ويفكر فيها؛ أما الآن فيتلقى عالما: صورة، صوتًا، مشهدًا، نصًا، ثم يحاول أن يجد مكانه داخله. وهذه القفزة تجعل النموذج أقرب إلى مفهوم «الإدراك»، لا بمعنى الوعي البشري، بل بمعنى القدرة على جمع الإشارات المتعددة وصهرها في فهم واحد متماسك. وكأنّ الذكاء الاصطناعي خرج من غرفة مغلقة كانت تحكمها اللغة وحدها، ودخل إلى ساحة واسعة تتداخل فيها الحواس دون جدران.
ومع نهاية المشهد، نقف لنتأمل هذا التحول العميق. نكتشف أن النماذج متعددة الوسائط ليست مجرد خطوة في مسار التطور، بل منعطفًا جوهريًا في الطريقة التي تنظر بها الآلة إلى العالم. لقد تعلّمنا أن الكلمة بدون صورة ناقصة، وأن الصورة بدون صوت مبتورة، وأن الصوت بدون معنى لغوي لا يكتمل. وعند هذه النقطة يبدأ النموذج في الاقتراب أكثر من الطريقة التي نفهم بها نحن البشر، لا لأن لديه وعيًا، بل لأن تعدد الوسائط يمنحه ملمسًا جديدًا للفهم، ملمسًا يشبه التجربة أكثر مما يشبه الحساب. وهكذا ندرك أن النماذج متعددة الوسائط ليست أجهزة ذكية فحسب، بل بوابة إلى عقلٍ رقمي يتعلم أن يرى العالم كما نراه: متعدد الوجوه، متشابك الحواس، غنيًا بالمعاني التي تولد من التقاء الأشياء، لا من كلٍّ واحدٍ منها على حدة.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)