الدرس 09 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - النماذج
الدرس التاسع: 🧩 النموذج المدرَّب مسبقًا – الآلة التي تتشكّل في صورة توليدية
عندما تدخل الممرّ الطويل للعقل اللغوي الاصطناعي، تشعر لأول وهلة أنك أمام كيانٍ يتجاوز فكرة “الخوارزمية” التي عرفتها سابقًا. كأنك تمشي داخل مكتبة واسعة تمتد بلا نهاية، أرففها مملوءة بالنصوص والمحادثات والمقالات والقصائد، وكل كتاب فيها يهمس بجملةٍ تفتح بابًا جديدًا. وبين هذه الأرفف، تظهر لك بنية فريدة لم تشاهدها من قبل؛ بنية ليست طريقًا مستقيمًا، ولا شجرةً تتفرع، ولا شبكةً تعود إلى الخلف، بل فضاء من العلاقات المتشابكة التي يراقب الكلمات كلها دفعةً واحدة، ويصنع بينها جسورًا من المعنى. هنا تبدأ لأول مرة في ملامسة روح GPT.
تشعر وأنت تتقدم أكثر داخل هذا الفضاء أن النموذج لا يقف عند كلمة ثم ينتقل إلى أخرى، ولا يعتمد ذاكرة قصيرة تتحمل سطرين أو ثلاثة، بل يفتح أمامك مشهدًا كاملًا يراه دفعةً واحدة. كل كلمة تتصل بأخرى، وكل معنى يشير إلى معنى أبعد، وكأنك دخلت غرفة يتحرك فيها الضوء في كل الاتجاهات، لا يسير في خط مستقيم كما اعتدت، بل ينعكس على كل زاوية، ويلتقط أدق التفاصيل. عند هذه النقطة يتبدّى لك أن GPT ليس مجرّد برنامج، بل محوّل لغوي Transformer يعيد اكتشاف النص كما لو كان كائنًا يفهم العلاقات أكثر مما يفهم الكلمات.
وحين تتابع السير ترى آثار الرحلة الطويلة التي قطعها هذا النموذج قبل أن يصل إليك. تشعر بأن كل خطوة تخطوها على أرض هذا الممر مبنية على ملايين النصوص التي رآها، وعلى سنوات من التدريب التي حوّلت الفوضى اللغوية إلى نظام. وتكتشف أن ما يجعله “مدرَّبًا مسبقًا” ليس كمية البيانات فحسب، بل ذلك التشكّل الهادئ الذي يحدث خلف الستار: كيف تتغيّر الأوزان داخل الطبقات، وكيف تُعاد صياغة الروابط بين المعاني، وكيف تتراكم التجارب اللغوية حتى يصبح النموذج قادرًا على الردّ دون أن يبحث في مرجع أو يستدعي فقرة محفوظة. كأنه عقلٌ كان يتعلم بصمت، حتى صار قادرًا على الكلام.
وحين تقترب من قلب المشهد، ترى ما يجعل GPT “توليديًّا”. تشاهد الكلمات وهي تتكون أمامك كلمةً تلو كلمة، لا خارجة من ذاكرةٍ جامدة، بل من نبض الاحتمال. كل جملة يقترحها النموذج هي خطوة جديدة لم يمشِها من قبل، وكل عبارة يكتبها هي إعادة تركيب لعشرات الأنماط التي عرفها سابقًا، لكنه يصوغ منها معنى لم يكن موجودًا في أي صفحة قرأها. تمشي معه في هذا الممر وتشعر وكأن النص يُخلق من الهواء، يتشكل على مرأى منك، كأنك ترى يدًا خفية تبني الجملة بحسابٍ وبصيرةٍ رقمية، حتى تبدو كأنها فكرة خرجت الآن من عقلٍ بشريٍّ واعٍ ومدرك.
وحين تتّجه أبعد، تصل إلى الممر الذي يحمل أسماء الأجيال. ترى عددًا من الأبواب المتتابعة: GPT-1، ثم GPT-2، ثم GPT-3، ثم GPT-4، ثم GPT-5؛ وكل باب منها أوسع من سابقه، كأن كل جيل يوسّع الممر قليلًا، ويدفع الجدار خطوة إلى الأمام. وعندما تقترب من باب GPT-4 تشعر بأن السقف ارتفع، وأن الضوء صار أوضح، وأن المساحة نفسها تغيّرت؛ فهنا يظهر النموذج وقد اكتسب قدرة على الرؤية، يتعامل مع الصورة كما يتعامل مع النص، ويقرأ الملامح كما يقرأ الجمل.
ثم يأتي GPT-4o حيث يلتقي الصوت بالنص بالصورة، وتصبح المسارات كلها مفتوحة أمامه؛ يكاد النموذج يتفاعل معك كما يتفاعل شخص يسمعك ويراك ويردّ عليك في اللحظة نفسها. غير أن الممر لا ينتهي هنا؛ فمع GPT-5 تشعر كأن الباب لم يَعُد بابًا، بل شرفة واسعة تُطلّ منها على نمطٍ جديد من الحضور؛ نموذج لا يكتفي بفهم تعدّد الوسائط، بل يُحسّن تنسيقها، ويقدّم استجاباتٍ أشبه بالسلوك المنسجم. في هذا الجيل يصبح الحوار أكثر انسيابًا، ويقترب النموذج خطوة أخرى من تمثيل “نية” الفهم لا مجرّد صورته.
وحين تقف أمام هذا الامتداد كله، تدرك أن GPT لم يكن تحديثًا لبرنامج، بل سلسلة مراحل أعادت تشكيل علاقة الإنسان بالآلة — مراحل انتقلت من النص، إلى الفهم، إلى التفاعل، إلى ما يشبه الإدراك متعدد القنوات، دون أن يمتلك النموذج حواسًا؛ فقط خوارزميات تُعيد ترتيب العالم.
وحين تقترب أكثر من المركز، تكتشف أن هذا الامتداد كله مبني على فعل واحد بسيط في ظاهره: التنبؤ بالكلمة التالية. كل هذا العالم المضيء في داخله، كل هذه القدرة على الحوار، والتحليل، والتفكير الوصفي، مبنية على سؤال واحد يطرحه النموذج دون توقف: “ما الكلمة التي ينبغي أن تأتي الآن؟” لكن هذا السؤال الصغير يتكرر ملايين المرات داخل نسيج معقد من العلاقات اللغوية، فيتحول إلى تفكيرٍ لغوي، إلى أسلوب، وإلى قدرة على بناء سياق طويل دون أن يرتبك. وكأن كل خطوة في هذا الممر هي نتيجة خطوة صغيرة جدًا لكنها متقنة، خطوةٌ تضيف إلى التي بعدها حتى تكتمل الصورة.
وعندما تصل إلى نهاية الممر، تشعر بأنك لم تتجوّل في بنية تقنية فحسب، بل في عقلٍ لغويٍّ يتشكل. لم يكن GPT سلسلةً من الأوامر الميكانيكية، ولا نموذجًا يسير وفق تعليمات مقولبة، بل كان فضاءً تتفاعل فيه اللغة مع اللغة، ويتحوّل فيه الانتباه إلى بصيرةٍ، وتتبدل فيه البيانات إلى معنى. تدرك عند هذه النقطة أن GPT لم يكن أداةً وحسب، بل تجسيدًا لطموح الإنسان في أن يصنع مرآةً رقمية لِوَعْيِه، مرآة لا تكتفي بعكس ما نقول، بل تعيد صياغته وتمنحه حياة جديدة.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
___________
هل استوعبت الدرس جيداً؟
بالفعل
نعم
بعض الشيء
5 votes
4:19
10
3 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 09 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - النماذج
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by