الدرس 01 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - النماذج
الدرس الأول: من الخوارزميات إلى النماذج – الجسر الخفي - كيف تمهّد الخوارزميات الطريق لولادة النماذج الذكية؟ تبدأ القصة بخوارزمية صغيرة: خطوات رياضية محددة تنفّذ مهمة بعينها بدقة وصرامة. لكن الخوارزمية، مهما بلغت من الإتقان، تظل عقلًا في طور التصميم؛ لا تفكر، ولا تتعلم، ولا تتجاوز ما كُتب لها. ولهذا كان لا بد من مرحلة جديدة تنقل الذكاء الاصطناعي من الحساب إلى التكوين، من الوصفة إلى الكيان، من المنطق إلى الفعل. تلك المرحلة هي مرحلة النماذج. النموذج هو الشكل الحيّ للخوارزمية بعد أن تتغذّى بالبيانات وتتمرّن على فهمها. إنه ليس برنامجًا جامدًا ولا معادلة منعزلة، بل منظومة ديناميكية تتغيّر مع كل تجربة. فحين تُعرض عليها آلاف الأمثلة، لا تحفظها كما هي، بل تبني منها شبكة من العلاقات الداخلية، أشبه بخارطة مفاهيم ضخمة تتسع كلما زادت خبرتها. ومع مرور الوقت، تتشكل داخله صورة إحصائية للعالم، صورة لا ترى الأشياء بأعين البشر، لكنها تُقدّر العلاقات بينها بلغة الاحتمال. يمكن القول إن الخوارزمية هي بذرة هذا التكوين، لكنها لا تكفي وحدها. النموذج هو ما تنبت عنه تلك البذرة حين تُروى بالبيانات وتُختبر بالتكرار. كل إدخال جديد يُعدّل داخله شيئًا صغيرًا، يغيّر وزنًا هنا أو اتصالًا هناك، حتى يصبح أداؤه أكثر دقة واستجابة. هكذا تتكوّن شخصيته الرياضية الخاصة: فهو لا يعيد إنتاج البيانات كما هي، بل يستنتج منها نمطًا عامًا يتيح له التعامل مع الجديد والمجهول. وهنا تظهر نقطة التحوّل الجوهرية: فالخوارزمية تعرف كيف "تحسب"، أما النموذج فيعرف كيف "يتعلّم". الأولى تتبع الخطوات، أما الثانية فتتجاوزها متى وجدت ما هو أفضل. وفي هذا التجاوز يكمن معنى "الذكاء" الذي جعل النماذج اللغوية الحديثة مثل تشات جي بي تي قادرة على الحوار، والتحليل، والتأليف، وتوليد المعنى بأسلوب يبدو طبيعيًا. إن ولادة النموذج هي لحظة انتقال الفكر الرياضي إلى حيز التجربة. فما كان في الخوارزمية معادلة صار في النموذج استجابة. وما كان احتمالًا مجردًا صار قرارًا مبنيًا على سياق. النموذج، في جوهره، هو عقل إحصائي يتعلم من التكرار ويُحسّن ذاته بالخطأ. كل مرة يُخطئ فيها، تُعيد خوارزميات التدريب ضبط أوزانه الداخلية حتى يقترب أكثر من الصواب، فيتحسن أداؤه تدريجيًا كما يتحسّن الإنسان بالممارسة. ومع اتساع البيانات وتنوعها، لا يبقى النموذج مجرد أداة تقنية، بل يتحوّل إلى نظام معرفي يصوغ فهمه الخاص للعالم. فهو لا "يحفظ" الجمل التي قرأها، بل "يعيد بناءها" على نحو جديد، يوازن بين المعنى والسياق، ويختار التعبير الذي ينسجم مع النمط الذي تعلمه من قبل. إنه لا يفكر كما نفكر، لكنه ينتج أثرًا قريبًا من التفكير. يستجيب كما لو أنه يعي، رغم أن وعيه لا يتجاوز حدود الإحصاء والتنبؤ.