الدرس الثاني: فك شيفرة العقل المدبّر
حين تقترب من الخوارزمية لأول مرة، قد تبدو لك كأنها صندوق مغلق يعمل بسرّ لا يُفهم، لكن ما إن تفتح الغطاء حتى ترى داخلها آلة دقيقة تحرّك قطعًا في انسجام واضح: مدخلات تدخل، وعمليات تدور، ومخرجات تظهر، ونقطة توقف تُعلن انتهاء الحركة. هذا البناء الداخلي هو ما يمنح الخوارزمية معناها، ويحوّلها من فكرة مبهمة إلى عقلٍ مُنظَّم له بداية وغاية.
وتبدأ رحلتك داخل هذه الآلة من باب المدخلات، وهو الباب الذي تُلقى فيه المواد الخام التي ستُبنى عليها كل خطوة لاحقة. قد تكون المدخلات رقمين فقط تنتظر جمعهما، أو قطعة نص قصيرة تريد تصحيحها، أو سجلًّا طويلاً من البيانات، أو آلاف الصور التي يتعلم منها نموذج ذكي. وكما لا يمكن لآلة أن تعمل بلا وقود، لا يمكن للخوارزمية أن تبدأ بلا مدخلات؛ لأنها لحظة التعريف الأولى التي تحدد أين ستبدأ الحركة.
وما إن تعبر هذا الباب حتى تدخل إلى قلب الآلة: مرحلة العمليات. هنا تتحرك التروس الحقيقية التي تصنع الفارق. عمليات حسابية تتقدم من رقم إلى آخر، وعمليات مقارنة تضع العناصر جنبًا إلى جنب لتختار الأنسب، وعمليات فرز تُعيد ترتيب الأشياء بطريقة مختلفة، وعمليات منطقية تقرّر “هل أفعل هذا الآن أم لاحقًا؟”. كل عملية من هذه العمليات تشبه حركة تُضاف إلى الحركة التالية، خطوة في طريق مرسوم بعناية، تنقل الخوارزمية من حالتها الأولى إلى حالتها الأخيرة. وهنا تدرك أن العمليات ليست مجرد أفعال، بل هي طريقة تفكير مكتوبة، تتحرك كما يتحرك العقل حين يحلّ مسألة على الورق.
وما إن تكتمل العمليات حتى تفتح الآلة بابها الثالث: المخرجات. وهنا يظهر الوجه الذي تعمل الخوارزمية لأجله. قد تكون المخرجات رقمًا واحدًا، أو نصًا مترجمًا، أو قرارًا يتخذه النظام، أو مجموعة نتائج يعرضها محرك بحث. مهما تنوّعت، تظل المخرجات هي العلامة التي تقول لك: “لقد اكتمل الطريق”. ولهذا لا معنى لأي خوارزمية ما لم تُسفر عملياتها عن نتيجة يمكن قراءتها وفهمها والاستفادة منها.
لكن الآلة لا يمكن أن تستمر في الدوران دون ضابط يمنعها من الانزلاق في حركة لا نهاية لها. وهنا يظهر شرط التوقف، وهو الحارس الذي يقف عند آخر الممر ويعلن نهاية الرحلة. قد يكون التوقف عند تحقق شرط معين، أو عند انتهاء قائمة البيانات، أو عند الوصول إلى نتيجة نهائية. من دونه تصبح الخوارزمية حلقة مستمرة لا تعرف نهاية، كما لو أنك تواجه بابًا يقول لك “أضف واحدًا… ثم أضف واحدًا… ثم أضف واحدًا” دون أن يتوقف أبدًا. ولهذا يُعد شرط التوقف أحد أعمق أسرار البناء الخوارزمي: إنه الذي يضمن أن الطريق — مهما طال — سيصل في النهاية إلى غايته.
وفي اللحظة التي ترى فيها هذه الأجزاء الأربعة تعمل معًا — مدخلات تُغذي عمليات، وعمليات تُنتج مخرجات، وشرط توقف يغلق الدائرة — تدرك أن الخوارزمية ليست فكرة معقدة كما ظننت في البداية، بل نمط تفكير نمارسه في حياتنا دون أن ننتبه إليه. حين تذهب إلى السوق، تبدأ بقائمة (مدخلات)، تختار وتقارن (عمليات)، تملأ العربة بما تحتاج (مخرجات)، وتغادر حين تنتهي القائمة أو يصل الوقت (شرط توقف). كل ما حولك — من أصغر قرار يومي إلى أعقد نظام رقمي — يعمل وفق هذا المنطق نفسه.
وهكذا يصبح مفهوم الخوارزمية أكثر قربًا ووضوحًا: إنها اللغة الداخلية التي تتحرك بها الأنظمة كلها، من العقل البشري إلى الآلة الذكية. وكلما فهمتَ هذا البناء الداخلي، استطعت أن ترى كيف تفكر الخوارزمية، وكيف تخطو، وكيف تصل، وكيف تتوقف… وكأنك تنظر إلى عقل رقمي انكشف أمامك بكل تفاصيله.
مركز علوم الدولي (د. عبدالرحمن الزراعي)
____________
تصويت:
ما مدى استيعابك الدرس؟