الدرس السادس: حين نطقت البيانات: كيف أعادت المعلومة رسم خريطة الذكاء الاصطناعي
في البداية، حين كان الإنسان يكتب القواعد يدويًا، كان الذكاء الاصطناعي محدودًا بحدود ما يُكتب له. لم يكن يعرف أكثر مما أُخبر به، ولا يستطيع تجاوز ما خُطَّ في كوده. لكن حين بدأ العلماء يُقدّمون له أمثلة بدل الأوامر، تغيّر كل شيء. صارت البيانات هي المعلم الفعلي، وصار النموذج طالبًا يتعلّم من التجربة. كل مثال جديد يُضاف إلى ذاكرته يصبح درسًا جديدًا، وكل خطأ يقع فيه يتحوّل إلى تصحيح في المرات القادمة. بهذه الطريقة تحوّل الذكاء الاصطناعي من نظام جامد إلى نظام قابل للتعلّم، ومن آلة تنفّذ إلى آلة تستنتج.
ومع ازدياد حجم البيانات التي تُغذّى بها النماذج، بدأت الدقة ترتفع والقدرة على التعميم تتحسّن. لم تعد الآلة تحتاج إلى أن تشرح لها كل حالة ممكنة، بل أصبحت قادرة على استخلاص القواعد العامة من آلاف الحالات المختلفة. حين ترى نماذج كثيرة من القطط مثلًا، في أوضاع وألوان وخلفيات متعددة، تستنتج القاعدة بنفسها: ما الذي يجعل القطة قطة، بغضّ النظر عن شكلها الظاهري. هذه القدرة على التعميم لم تكن لتحدث لولا وفرة البيانات وتنوعها، وهو ما جعلنا ننتقل من ذكاءٍ محدود إلى ذكاءٍ أكثر مرونة وواقعية.
لكن ازدياد حجم البيانات لم يكن وحده كافيًا. فمع تضخم الكميات، ظهرت الحاجة إلى نوعية أفضل. الكثرة قد تُخفي الأخطاء بدل أن تصحّحها، لأن النموذج يتعلّم من كل ما يُقدَّم له دون تمييز. فإذا كانت البيانات مشوّشة أو متحيّزة، سينسخ التحيّز نفسه في نتائجه. لهذا أصبح شعار الباحثين واضحًا: البيانات الجيدة تخلق ذكاءً جيدًا، والبيانات السيئة تخلق ذكاءً منحرفًا. فالذكاء الاصطناعي لا يملك بوصلته الأخلاقية الخاصة، بل يستمد اتجاهه من البيانات التي يراها. إن كانت هذه البيانات تمثّل العالم بعدلٍ وتنوّع، سيعكس فهمًا متوازنًا، وإن كانت منحازة لجانب دون آخر، سيصبح منحازًا بدوره.
هكذا تحوّلت البيانات من مجرد مدخلات خام إلى عنصرٍ يصوغ الوعي الاصطناعي نفسه. فكل معلومة تُقدَّم له تحدد طريقته في النظر إلى الواقع. النموذج اللغوي الذي يُدرّب على نصوص أدبية يتعلّم أن يكتب ببلاغة، والذي يُدرّب على لغة علمية يكتسب أسلوبًا تحليليًا دقيقًا، والذي يُدرّب على مقالات مليئة بالأخطاء يصبح بدوره مُشوّش الفهم. حتى في المجالات الطبية، أثبتت الدراسات أن دقّة النماذج في تشخيص الأمراض تعتمد على تنوع الصور الطبية التي تتلقاها وعددها. فالنموذج الذي يرى صورًا كثيرة لمرضٍ نادر سيتعرّف عليه بسرعة، بينما الذي لم يرها من قبل سيخفق في تمييزها.
أصبحت البيانات اليوم معيارًا للجودة في الذكاء الاصطناعي، وأشبه بالبوصلة التي تحدد اتجاهه يُقاس مستوى فهمه للعالم، فهي التي تبني لغته وصوته وموقفه. والفرق بين نموذجٍ سطحي وآخر عميق لا يعود غالبًا إلى الخوارزمية، بل إلى نوع البيانات التي تغذّيه. فحتى أكثر النماذج تطورًا تفقد قيمتها إن كانت معزولة عن بيانات حقيقية تمثّل الواقع بكل تعقيداته.
لقد غيّرت البيانات قواعد اللعبة لأنها حرّرت الذكاء الاصطناعي من قيد القواعد الجامدة، ومنحته إمكانية النمو الذاتي. ومع كل جيل جديد من النماذج، يزداد اعتمادنا عليها، ليس فقط لتشغيل النظام بل لبناء وعيه. إنها لم تعد مادة خارجية تُضاف إلى البرنامج، بل أصبحت جزءًا من هويته. لذلك يمكن القول إننا حين نُعلّم الآلة، فإننا نغرس فيها رؤيتنا نحن للعالم. نحن نمنحها المعرفة التي اخترناها لها، ونرسم لها حدود ما يمكن أن تعرفه. بهذا المعنى، صارت البيانات انعكاسًا للإنسان أكثر مما هي انعكاسٌ للآلة، فهي تجمع بين دقّة العلم وفوضى البشر.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبدالرحمن الزراعي)