الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التمثيل
🧩 الدرس الأول: 🧩 تمثيل المعنى — كيف تتحول الكلمات إلى مواقع داخل فضاء رقمي؟
حين تقترب من فكرة تمثيل المعنى، تكون قد قطعت مسارًا طويلًا في فهم كيف تتعامل الآلة مع الكلمات. ترى أولًا الكلمة كما نراها نحن، ثم تراها كما تراها الآلة: رمزًا لا يحمل صورة، وصوتًا لا يثير ذاكرة. ومع مرورك في هذا الطريق، تدرك أن الكلمة عند الإنسان تبدأ بحكاية، أما عند الآلة فتبدأ بنقطة صغيرة داخل فضاءٍ واسع لا يُرى. وكما ترى الخوارزمية وهي تتحول من وصف جامد إلى خطوة داخل منظومة، ترى المعنى وهو يتحول من فكرة بشرية إلى موقعٍ عددي يملك وظيفة داخل نظام أكبر.
وحين تنظر إلى عملية التمثيل بهذا المنظور، تكتشف أنها لا تعمل في عزلة. فالكلمة لا تنتقل من الحرف إلى الرقم مباشرة، بل تمر بمحطات متتابعة، كل محطة تضيف إليها طبقة جديدة من الفهم. محطةٌ تفكك النص إلى وحدات صغيرة، ومحطة تجعل لكل وحدة رمزًا يمكن للحاسوب قراءته، ومحطة تُحوّل هذا الرمز إلى متجه عددي يعيش داخل فضائه، ومحطة تجمع المتجهات لتبني العلاقات بينها. وكما تعمل ورش مدينة في تناغم لتنتج حركة واحدة مستقرة، تعمل هذه المراحل معًا لتصنع في النهاية شكلًا رقميًا للمعنى.
وعندما تنظر إلى الفضاء الذي تتجمع فيه هذه المعاني، تراه أشبه بخريطة واسعة، لا تُرسم بالألوان بل بالمسافات. كلمة تقف قرب أخرى لأنها تشترك معها في الاستخدام، وأخرى تبتعد لأنها تنتمي لمجال مختلف. ومع الوقت يبدأ هذا الفضاء في اتخاذ صورة كبيرة، صورة لا تُبنى من الصور الحسية، بل من الأنماط المتكررة التي تراها الآلة في النصوص. وهنا تدرك أن تمثيل المعنى ليس خطوة تقنية منفصلة، بل منظومة كاملة تُنسِّق حركة الكلمات داخل عقل النموذج، وتمنحه القدرة على فهم الجملة لا من شكلها، بل من موقعها بين المعاني من حولها.
وتستمر الفكرة في التحوّل كلما تقدّمت داخل هذا النظام. فبعد أن تستقر الكلمة داخل فضائها الرقمي، تبدأ علاقتها بالكلمات الأخرى في الظهور شيئًا فشيئًا. ليست علاقة مبنية على الصورة أو الصوت، بل على طريقة الاستخدام وتكرار الظهور في الجمل. كلمة تظهر كثيرًا مع كلمة أخرى تقترب منها، وأخرى لا تشترك معها في السياق تبتعد عنها، حتى تتكوّن خريطة واسعة يمكن للنموذج الرجوع إليها في كل مرة يحاول فيها فهم جملة جديدة.
ومع توالي الأمثلة التي تتدفق أثناء التدريب، يصبح هذا الفضاء أشبه بمخطط كبير تتوزع فيه النقاط كما تتوزع المدن على خريطة قديمة. بعضها متقارب كأنه ينتمي إلى الإقليم نفسه، وبعضها متباعد لأنه لا يجمعه رابط واضح. وحين يتعامل النموذج مع جملة جديدة، لا يقرأ الكلمات وحدها، بل ينظر إلى مواقعها داخل هذا الفضاء وإلى المسافات التي تفصل بينها. ومن خلال هذه المسافات يعرف النموذج إن كانت الكلمة قريبة من معناها الصحيح، أو إن كانت خرجت عن السياق، أو إن كان عليه اختيار تعبيرٍ آخر أكثر ملاءمة.
ومع الوقت تتكوّن لدى النموذج قدرة على التعامل مع اللغة بأسلوب أقرب إلى الفهم منه إلى الحفظ. فبدلًا من الاعتماد على شكل الكلمات أو ترتيبها الظاهر، يعتمد على العلاقات التي كوّنها داخل فضائه العددي. ولهذا يمكنه أن يستنتج معنى كلمة لم يرها من قبل، ما دامت علاقتها بغيرها واضحة في البيانات التي درّبته. ومع أن هذا الفهم لا يشبه الفهم البشري في اعتماده على التجربة، فإنه يحقق الغاية العملية التي يحتاجها النظام ليحلّل ويستنتج ويُنتج لغة ذات معنى.
وتخيّل أن هذا الفضاء الرقمي ساحةً واسعة يجتمع فيها أناس لا تعرف أسماءهم، لكنك تستطيع ترتيبهم بحسب اهتمامهم. تخيّل مثلًا أنك تقف في ساحة مدرسة، ويُطلب منك أن تجمع التلاميذ الذين يحبون كرة القدم في جهة، والذين يفضّلون الرسم في جهة أخرى، والذين يميلون إلى القراءة في جهة ثالثة. أنت لا تنظر إلى وجوههم أو أطوالهم، بل إلى اهتماماتهم المشتركة. ومع مرور الوقت، تزداد قدرتك على معرفة من سينضم إلى كل مجموعة حتى لو لم تتحدث معه من قبل؛ فقط لأن تصرفاته تشبه تصرفات من حوله.
بهذه الطريقة نفسها تتعامل الآلة مع الكلمات. فهي لا ترى معناها مباشرة، لكنها تلاحظ الكلمات التي تظهر معها كثيرًا، والكلمات التي تظهر بعيدًا عنها، فتضعها في مواقع مختلفة داخل فضائها الرقمي. كلمة تُستخدم مع "كتاب" تقترب منه، وكلمة تظهر في سياق الطعام تقترب من "تفاحة" و"برتقالة". ومع مرور الأمثلة، تصبح الآلة قادرة على تحديد موقع أي كلمة جديدة بناءً على الكلمات التي تشبهها في الاستعمال، تمامًا كما تعرف أنت أين سيقف الطالب الجديد إذا رأيت أنه يشارك الآخرين اهتماماتهم.
وهكذا يتضح أن تمثيل المعنى ليس مجرد خطوة تمهيدية، بل هو البنية الأساسية التي تجعل معالجة اللغة ممكنة. فهو الذي يمنح النموذج القدرة على ربط الكلمات ببعضها، وعلى بناء معنى متماسك يمتد عبر الجملة والنص. ومن دون هذا التمثيل الدقيق، تبقى الكلمات مربوطة بأشكالها لا بوظائفها، ويتعذر على الآلة رؤية ما يتجاوز السطح.
ومع أن هذا الفضاء الرقمي لا يحمل صورًا ولا أصواتًا، فإنه يحمل الروابط التي يقوم عليها الفهم اللغوي. فإذا كانت التجربة هي التي تعطي الكلمة معناها عند الإنسان، فإن العلاقات هي التي تعطيها معناها عند الآلة. وبين التجربة والعلاقة يقف هذا الفضاء العددي بوصفه الجسر الذي يربط بين عالم البشر وعالم النماذج، ويمنح اللغة القدرة على الحركة داخل النظام دون أن تفقد معناها.
وما دمتَ تدرك هذا الجسر وتعرف كيف يتشكّل، يمكنك أن ترى كيف تبني النماذج الحديثة قدراتها اللغوية، وكيف تسعى إلى الاقتراب من الفهم البشري بوسائل مختلفة، لكنها تقود في النهاية إلى الغاية نفسها: تحويل اللغة من رموز مبعثرة إلى شبكة من المعاني يسهل التعامل معها، والاعتماد عليها في بناء الإجابات، وتحليل الأسئلة، وتوليد النصوص التي تبدو طبيعية وواضحة.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
___________
ما مدى استيعابك الدرس؟
أكثر من ممتاز
ممتاز
جيد
5 votes
5:57
5:48
6:10
7
5 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التمثيل
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية