الدرس الحادي عشر: 🧩 ضغط التمثيلات وتصوير المساحات الرقمية — كيف نختصر العالم الرقمي… ثم نراه؟
حين تتسع الفضاءات الرقمية داخل النماذج الحديثة، وتتشكل أبعادها بالعشرات والمئات والآلاف، يصبح العقل الاصطناعي أشبه بمدينة هائلة لا تهدأ. شوارع ممتدة تمثل العلاقات، وساحات واسعة تضم المفاهيم المتقاربة، وتقاطعات تتشابك عندها المعاني التي اكتسبها النموذج عبر ملايين الأمثلة. هذه الوفرة تمنحه عمقًا ودقة في الفهم، لكنها في الوقت نفسه تزيد عبء الحساب وتثقل حركة النموذج كلما حاول تفسير نص أو تحليل صورة أو اتخاذ قرار. ومن هنا تبدأ الحاجة إلى ضغط التمثيلات: محاولة لإعادة ترتيب هذه المساحات، بحيث تحتفظ بما هو ضروري، وتترك ما لا يضيف جديدًا. إنها عملية شبيهة بطيّ كتاب ضخم إلى خلاصة صغيرة من دون أن يضيّع فكرته، أو اختزال خريطة واسعة إلى خطوطها الكبرى دون أن يَبهت شكل الأرض.
والفكرة في جوهرها تقوم على سؤال واحد: ما الذي يمكن للنموذج أن يستغني عنه من دون أن يختلّ فهمه؟ فالأبعاد داخل المتجه ليست جميعها ذات القيمة نفسها؛ بعضها يحمل جوهر المعنى، وبعضها مجرد ظلال رقمية نتجت عن ضوضاء التدريب أو تفاصيل لا تأثير لها. ومن هنا ظهرت عدة طرائق تعمل كما يعمل الناقد حين يقرأ نصًا طويلًا، فيحتفظ بجملته المركزية ويترك الزوائد. فهناك تحليل المكونات الرئيسية، الذي يضغط الفضاء في محاوره الجوهرية، فيكشف ما يميز المعاني بعضها عن بعض ويُبقي عليه. وهناك التكميم الذي يقلل دقة الأعداد لكنه يترك الشكل العام للتمثيل قائمًا، تمامًا كما نقلل درجات الألوان في صورة من دون أن نفقد ملامحها. وتأتي التجزئة كخطوة أشد اختصارًا، إذ تُعاد صياغة المتجهات في رموز صغيرة يمكن مقارنتها بسهولة. وأخيرًا تظهر التصفية التكيفية، وهي عملية جراحية دقيقة تزيل الأبعاد الأقل تأثيرًا، واحدًا بعد آخر، حتى يصبح الفضاء نحيفًا لكنه قادر على أداء وظيفته.
ومع ذلك، لا يُعد الضغط سباقًا نحو الأصغر، بل توازنًا بين السرعة والمعنى. فكلما زاد الضغط، تحرك النموذج بخفة، لكن الخط الفاصل بين الاختصار والفقدان يصبح أدق. الإفراط في إزالة الأبعاد يذيب الفروق الدقيقة بين المفاهيم، فيصبح الفضاء متشابه الملامح، كلوحة طُمست ألوانها حتى غدت رمادية. أمّا الاعتدال فيبقي الفضاء قابلاً للعمل، خفيفًا لكنه نابض بالمعرفة، قادرًا على خدمة التطبيقات العملية من غير أن يفقد بصيرته.
وعند هذه النقطة بالتحديد، يصبح السؤال التالي ضروريًا: بعد أن نضغط الفضاء، كيف نراه؟ فهذه المساحات الرقمية التي يمتد بعضها عبر مئات الأبعاد لا يمكن للعين البشرية إدراكها مباشرة. هي عوالم خفية، قد تبدو مجرّدة أو بعيدة، لكنها تحتضن في داخلها حركة المعنى وتوزيع العلاقات. وهنا يأتي دور تصوير التمثيلات؛ محاولة لترجمة عالم بألف بُعد إلى لوحة ذات بُعدين أو ثلاثة يمكن للعقل البشري أن يتأملها ويقرأ تضاريسها.
وحتى يصبح هذا العالم الرقمي الكثيف قابلًا للرؤية، طوّر الباحثون أدواتٍ تُسقط أبعاده الواسعة على لوحات يمكن للعقل البشري قراءتها. يأتي تحليل المكوّنات الرئيسية أولًا، فيرسم الخطوط العريضة للفضاء كما لو يلتقط مشهدًا بانوراميًا يبرز الفوارق الكبرى بين المفاهيم. ثم تتقدّم خوارزمية t-SNE نحو العمق، تغوص في التفاصيل، وتُظهر التجمّعات الصغيرة، وتكشف الأحياء الخفية التي تجتمع فيها المفاهيم المتقاربة. وبعدها تظهر UMAP، التي تمزج بين الدقة والاتساع، فترسم صورة تجمع العلاقات العامة وتحتفظ في الوقت نفسه بحساسيتها للتفاصيل. وعندما تُعرَض هذه الخرائط المصغّرة، يتبدّى المشهد شيئًا فشيئًا: مساحات واسعة تحتضن قيمًا تنتمي إلى المجال نفسه، تكتلات تشير إلى تقاربٍ دلالي، فواصل واضحة تفصل المفاهيم المتناقضة، ونقاط بعيدة كأنها إشارات تحذّر من خللٍ أو شوائب في البيانات لم تكن ظاهرة من قبل.
إن تأمّل هذه الخرائط ليس مجرد ممارسةٍ شكلية، بل أداة لفهم البنية الداخلية للعقل الاصطناعي. فالتداخلات داخل الفضاء تُنذر باضطراب في التمثيل، والأبعاد الممدودة بلا سبب تكشف عن توسّع لا قيمة له، والنقاط البعيدة توحي ببيانات ناقصة أو انحرافٍ حدث أثناء التدريب. وهكذا يتحول تصوير الفضاء الرقمي إلى ما يشبه الفحص الطبي للعقل الاصطناعي؛ لوحة تكشف درجاته الفاتحة والداكنة، وتسمح للمهندس بأن يقرأ من خلالها مواضع الاتساق ومواطن الخلل، فيفهم كيف يتوزع المعنى وكيف يعمل النموذج من الداخل.
وحين نجمع الضغط والتصوير معًا، نصل إلى الصورة الكاملة لهذا الدرس: فضاءٌ أصبح أخف، ثم أصبح مرئيًا، ثم أصبح قابلًا للفهم والإصلاح. فالتقني الذي يريد بناء نموذج فعّال لا يكتفي بصنع تمثيلات واسعة، بل يعيد تشكيلها حتى تتزن، ويصورها حتى يفهمها، ويضبطها حتى تستقيم. والغاية ليست تقليل الحجم فحسب، بل الوصول إلى تمثيل واضح يحمل المعنى دون أن يضيع، وتمثيل متماسك يمكن البناء عليه في كل خطوة لاحقة من عملية الفهم.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
_______
هل كان الدرس مفهوما