الدرس التاسع: 🧩 مقاييس جودة التمثيل - كيف تحمل الخريطة الرقمية المعنى ؟
عندما تبني نموذجًا يفهم اللغة أو يرسم صورة أو يميّز الأشياء، فأنت في الحقيقة تبني له عالما داخليًا يعيش فيه. عالمٌ لا يعتمد على الورق ولا على الأصوات، بل على نقاطٍ وأبعاد وعلاقات رقمية تشكّل ما يشبه خريطة واسعة داخل الفضاء الحسابي للنموذج. لكن هذه الخريطة لا تتكوّن دائمًا بصورة متقنة. فقد تجد فضاءات مرتّبة وواضحة، تضع "قطة" قريبة من "كلب" و"بحر" بجانب "محيط"، وقد تجد فضاءات أخرى مشوشة لا تنسجم فيها المعاني مع ما نعرفه عن العالم.
ومن هنا تنشأ الحاجة إلى قياس جودة التمثيل. فكما لا نحكم على سيارة من سرعتها في شارع مستقيم، بل نختبر مكابحها وثباتها وقدرتها على المناورة، كذلك لا يكفي أن ينتج النموذج مخرجات جيدة في مهمة واحدة. بل يجب أن نرى ما إذا كانت خريطته الداخلية -تمثيلاته الرقمية-منسجمة وقابلة للاعتماد عبر مهام مختلفة. فالمعنى الحقيقي لا يثبت عند السطح، بل يتكشّف في العمق.
وتبدأ عملية القياس بالمقارنة بين النقاط داخل الفضاء الرقمي. هناك طريقتان أساسيتان تستخدمهما النماذج الحديثة. الأولى تقيس الزاوية بين التمثيلات، وتسمى التشابه الكوني. فإذا كانت الزاوية صغيرة، فهذا يعني أن المعنيين يسيران في الاتجاه نفسه داخل الفضاء، أي أنهما متشابهان. والثانية تقيس المسافة الفعلية بين النقاط، كما لو أننا نمدّ مسطرة بينهما. وكلما كانت المسافة قصيرة، دلّ ذلك على قرب المعنى. وعلى الرغم من اختلاف الطريقتين، فإن هدفهما واحد: معرفة مدى ترابط المفاهيم داخل الفضاء الرقمي.
لكن المسألة لا تتوقف عند مقارنة نقطتين فقط. فهناك اختبارات تُجرى على مستوى المجموعات. نقيس تقارب العناصر التي تنتمي إلى فئة واحدة، مثل صور لقطط متعددة أو كلمات تشير إلى مشاعر متشابهة. ويسمى ذلك القرب داخل الفئة. ثم نقيس المسافة بين الفئات المختلفة، مثل الفرق بين تمثيل "قطة" وتمثيل "سيارة". وهو ما يسمّى البعد بين الفئات. وعندما تكون الفئة الواحدة متقاربة، والفئات المختلفة متباعدة، فهذا يعني أن الفضاء التمثيلي منظم بشكل جيد.
ورغم أن هذه المقاييس الرياضية تمنحنا مؤشرات مهمة، فإنها لا تكفي وحدها للحكم على جودة النموذج. لذلك نلجأ إلى الاختبار العملي؛ نريد أن نرى كيف يتصرف النموذج حين نضعه أمام أمثلة واقعية تشبه ما يواجهه في الاستخدام اليومي. فنُدخل إليه جملتين متقاربتين في المعنى مثل: "الجو ممطر" و"السماء تمطر"، لنرى هل يضعهما في منطقة واحدة داخل فضائه الرقمي، أم يشتتهما بعيدًا كما لو أنه لا يرى الرابط بينهما. وفي الصور نختبر الأمر نفسه: هل تقع صورتان لقط واحد، التُقطت إحداهما من الأمام والأخرى من الجانب، في المكان ذاته تقريبًا؟ وهل يستطيع النموذج أن يميز بين حيوان وشيء لا علاقة له به، حتى لو كان الشكل الخارجي يحمل درجة من التشابه قد تُربك العين غير المدربة؟
ويمتد الاختبار إلى جمل أخرى تبدو مختلفة في ظاهرها لكنها تحمل المعنى ذاته، مثل: "الطفل يضحك" و"الصغير يبتسم". فإذا كان الفضاء التمثيلي سليم البناء، سيُقربهما كما يُقرّب النموذج بين الشعورين اللذين تصفهما الجملتان. بل ويمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، فنقارن بين جملتين من مجال واحد تحملان دلالة مشتركة، كقولنا: "ارتفعت الأسعار هذا الأسبوع" و"زاد ثمن السلع مؤخرًا". فإذا فهم النموذج العلاقة الاقتصادية بينهما، سيُسكنهما في الحيّز نفسه داخل خريطته الداخلية، حيث تعيش المعاني المتقاربة جنبًا إلى جنب.
وفي الجانب البصري، نعيد التجربة على مشاهد تبدو بسيطة للعين البشرية لكنها تشكل تحديًا كبيرًا للنموذج. نضع أمامه صورتين مختلفتين لشجرة، إحداهما في ضوء الصباح والأخرى في عتمة المساء، ونراقب هل يراهما تمثيلان لشجرة واحدة أم يعدّهما كائنين منفصلين. ونختبر أيضًا دقة تمييزه للسياق: هل يتعامل مع كرة فوق بساط ملعب كما يتعامل مع كرة فوق رف غرفة جلوس؟ وهل يدرك أن صورة قارب وسط البحر ليست كصورة القارب نفسه داخل معرضٍ مغلق، رغم تطابق الشكل في كليهما؟
وبهذا النوع من الاختبارات العملية، نكشف الطبقات الخفية في فهم النموذج. فإذا كان تمثيله للمعاني منظمًا، ستتجاور الجمل المتشابهة وتتقارب الصور المتقاربة، ويبتعد كل ما لا يجمعه رابط حقيقي. أما إذا اختلطت المعاني وتداخلت الفئات، فسيظهر الخلل سريعًا، ويكشف لنا أن النموذج لا يرى العالم كما ينبغي، وأن فضاءه الرقمي بحاجة إلى إعادة ترتيب قبل أن يعتمد عليه في فهمٍ أوسع.
ولهذا يصبح تقييم جودة التمثيل بمثابة الامتحان الجوهري للنموذج. فهو لا يختبر الجملة التي يكتبها النموذج، بل يختبر الطريقة التي فكّر بها ليصل إليها. إنّه فحصٌ للبنية التي يعتمد عليها النموذج في فهمه للعالم، ومدى انضباط هذه البنية مع العلاقات الحقيقية في اللغة أو في الصورة أو في الصوت.
إن مقاييس جودة التمثيل ليست مجرد أدوات تحليل، بل هي البوصلة التي توجّه عملية تطوير النماذج. فمن خلالها نعرف أين تزداد دقة الفضاء، وأين يختلط المعنى، وأين ينبغي تحسين التمثيل أو إعادة تدريب النموذج. ومع كل تحسين، يقترب الفضاء الداخلي خطوة من خريطة العالم الواقعي.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
______________
هل الدرس كان واضحا