الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التفاعل
الدرس الأول: مدخل إلى التفاعل البشريّ الآليّ - من الحوار بين البشر إلى الحوار مع الآلة
حين نعود بذاكرتنا إلى فجر التواصل الإنساني، نرى أن الحوار كان أول جسر تبادلت عليه العقول الأفكار. كانت الكلمة تُلقى، فيتلقّاها الآخر، ثم يبدأ بينهما خيط لا يُرى يربط ما في ذهن أحدهما بما في ذهن الآخر. هكذا وُلدت اللغة، وهكذا بدأت المعاني تتحرك من صدرٍ إلى صدر، ومن عقلٍ إلى عقل. وما تزال هذه الفكرة القديمة -الإصغاء والرد- هي الأصل الذي يقوم عليه معظم ما نفعله اليوم حين نتواصل.
غير أنّ ظهور الحاسوب في القرن الماضي ألقى بظلال جديدة على هذا المشهد. فبدل أن نحاور بشرًا يشتركون معنا في التجربة والشعور، وجدنا أنفسنا نخاطب جهازًا لا يعرف إلا التعليمات الصريحة. كتبنا له: "افتح"، "أغلق"، "انسخ"، "احسب"، فامتثل دون أن يفهم شيئًا. لم يكن يرى ما وراء الكلمات، ولا يستنتج النية، ولا يتساءل لماذا نأمره بما نأمر. كان أشبه بآلة صمّاء، تنفّذ لأنها لا تعرف غير التنفيذ. لم يكن هناك "تفاعل"، بل سلسلة أوامر تُلقى من جهة واحدة.
ومع ذلك، لم يكن هذا نهاية الطريق؛ فقد كانت بدايته فقط. فمع تطور الخوارزميات واتساع قدرة النماذج على التعلم، بدأت الآلة تتقدم خطوةً بعد أخرى نحو منطقة لم تطأها من قبل: منطقة فهم الإنسان. صار الحاسوب لا يكتفي بتنفيذ الأمر، بل يتساءل عن الغرض منه، يبحث عن السياق، يحاول تفسير ما وراء العبارة. لم يعد ينتظر مِن المستخدم أن يكتب له تعليمات صغيرة متتابعة، بل أصبح قادرًا على فهم الجملة الطويلة، وتحليل السؤال المركّب، والتعامل مع الغموض الذي كان يحيّر الآلات القديمة. ومن هنا، بدأت ملامح التفاعل البشريّ الآليّ تتكوّن في شكلها الحديث.
لقد رأينا في المرتكزات السابقة كيف جُمعت البيانات، وكيف صيغت الخوارزميات، وكيف بُنيت التمثيلات التي تمنح النموذج لغة داخلية يفكّر بها. لكن كل تلك الخطوات، على عمقها، كانت تحدث في الخفاء. كانت أشبه بالهندسة الصامتة التي تشيّد بِنية العقل، لكنها لا تكشف لنا كيف يتصرّف هذا العقل حين يواجه الإنسان وجهًا لوجه.
هنا، في مرتكز التفاعل، تخرج كل تلك الطبقات إلى السطح. يصبح السؤال: كيف يتصرّف النموذج حين تتكلم معه؟ كيف يفهم؟ كيف يرد؟ ما الذي يجعلك تشعر بأنك “تحاور” كيانًا يمتلك نوعًا من الفهم؟ وما الذي يمنحه القدرة على الاندماج مع حاجتك وتوقعك بطريقة تبدو أحيانًا أقرب إلى البشر منها إلى الآلات؟
في البداية، كان الحوار نصيًا فقط؛ كلمات تكتبها بيدك، فتأتيك كلمات أخرى من النظام. ورغم بساطة هذا النوع، إلا أنه فتح بابًا كبيرًا لم يكن قائمًا من قبل، لأن النص يمنحك مساحة للتعبير الحر دون قيود تقنية معقدة. ثم ارتقت الواجهة إلى المستوى الصوتي، فصار الكلام نفسه هو اللغة التي تخاطب بها الآلة، وصارت الاستجابة تأتيك بنبرة لا تختلف كثيرًا عن نبرة الإنسان. وبعده تقدمت النماذج إلى المستوى البصري، حيث أصبحت ترى العالم، تفهم الأشياء عبر الكاميرا، وتفكّر في الصورة كما تفكر في النص. ثم جاءت المرحلة الأوسع: التفاعل متعدد الوسائط، حيث تتوحّد الحواس كلها -النص والصوت والصورة- في قناة واحدة، فيصبح النموذج قادرًا على استيعاب الموقف كما لو كان يجلس معك في المكان نفسه، ينظر إلى ما تنظر إليه، ويسمع ما تسمعه، ويفسّر كلماتك في ضوء المشهد بكل تفاصيله.
وبهذا المعنى يصبح الحوار مع النموذج انعكاسًا حقيقيًا لذكائه. فإذا بدا تفاعلك معه سلسًا، وعميقًا، ومتناغمًا، فذلك دليل على أن بنيته الداخلية تعمل بانسجام. وإذا اضطررت إلى شرح ما تقصد أكثر من مرة، أو وجدت أن الردود لا تلامس حاجتك، فذلك يعني أن أحد مستويات التفاعل لم يكتمل بعد. فالذكاء الاصطناعي لا يُقاس بكمية المعلومات التي يحملها، بل بقدرته على تحويل تلك المعرفة إلى حوارٍ يقترب من فهم الإنسان.
إن التفاعل ليس آخر مراحل الذكاء الاصطناعي، بل هو المرحلة التي تضع كل مراحله السابقة على المحك. ففيه يُختبر البناء الحقيقي للنموذج: هل فهم؟ هل استدل؟ هل استوعب السياق؟ هل استطاع أن يصوغ استجابة تنسجم مع حاجتك وتوقعك؟ هنا يظهر الذكاء، لا في الحسابات الصامتة ولا في الخوارزميات المخفية، بل في تلك اللحظة البسيطة التي يقول لك فيها النموذج: “أفْهَمُ ما تريد”.
التفاعل البشري–الآلي هو لحظة انكشاف العقل الاصطناعي أمام الإنسان. فيها تتحول البيانات والخوارزميات والتمثيلات إلى صوتٍ يجيب، ونصٍ يفسّر، وصورةٍ تُحلّل. وهو ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها الظاهرة، حيث يبدأ العقلان -البشري والرقمي- في بناء تجربة مشتركة، يتشكل فيها المعنى مع كل سؤال وجواب، ومع كل خطوة جديدة نحو فهمٍ أكثر إنسانية.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
______________
ما مدى استيعابك الدرس
ممتاز
جيد
مقبول
3 votes
4:36
6:47
4
1 comment
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 01 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التفاعل
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية