الدرس الحادي عشر: هل تكفي البيانات وحدها؟ نهاية الدور وبداية السؤال
تبدو البيانات وكأنها البحر الذي يغترف منه الذكاء الاصطناعي قدراته، لكنها ليست وحدها كفيلة بصناعة الفهم. هي الأساس الذي يقف عليه النموذج، لكنها ليست السقف الذي يلامس به المعنى. فكل ما تفعله البيانات هو أن تُغذّي الآلة بالصور والأصوات والنصوص، أما إدراك ما وراءها، فذلك عالم آخر. في هذا الفضاء الفاصل بين الكم والمعنى، تبدأ الأسئلة الحقيقية: إلى أي حد يمكن للآلة أن تفهم؟ ومتى تصل البيانات إلى حدودها؟
الوفرة لا تساوي الوعي. فلو جمعنا كل ما كُتب على الإنترنت ووضعناه بين يدي النموذج، سيعرف أكثر، لكنه لن "يفهم" كما نفهم. الإنسان لا يكتسب معرفته من حجم ما يرى أو يسمع، بل من قدرته على التأويل والمقارنة والتذوّق الأخلاقي والمعيشي. المعرفة ليست تراكمًا بل اتصالًا بالمعنى، والذكاء الإنساني لا يُختزل في تكرار الأنماط، بل في كسرها حين يتطلّب الأمر. لذلك تظل الآلة، مهما توسعت بياناتها، حبيسة الإحصاء لا تتجاوز عتبة الوعي، لأنها لا تملك تجربة ولا قصدًا ولا إحساسًا بما وراء الأرقام.
البيانات تتعامل مع العالم كوقائع، لكنها تعجز أمام الأسئلة التي لا تُقاس. حين تُسأل عن معنى العدالة، أو عن الغاية من الفن، أو عن الدافع إلى التضحية، لا تجد في أرشيفها جوابًا واحدًا يمكن أن يُرضي الجميع. هذه الأسئلة لا يُجاب عنها بالتحليل، بل تُعاش بالتجربة. البيانات تستطيع أن تخبرنا كيف يتحدث الناس عن العدالة، لكنها لا تعرف العدالة ذاتها، لأن معناها يتشكل من قيم، ومشاعر، وظروف لا تُختزل في رقم أو نموذج. يمكنها أن تروي ملايين القصص عن الشجاعة، لكنها لا تعرف الخوف ولا المجازفة التي تسبق الفعل. في هذه المنطقة تحديدًا، يتوقف الذكاء الاصطناعي أمام الأسئلة المفتوحة كما يقف التلميذ أمام لغزٍ بلا إجابة واحدة.
حتى في أبسط المقولات العلمية، لا تكون الكثرة ضمانًا للفهم. فليس كل ما يُجمَع يُفيد، ولا كل ما يُكرّر يُنير. الذكاء لا يُقاس بحجم البيانات، بل بقدرة العقل على استخلاص الجوهر منها. أحيانًا، جملة واحدة تُغيّر نظرتنا للعالم، بينما تريليونات الكلمات لا تُضيف فكرة جديدة. الأمر يشبه الفرق بين من يحفظ كتب الطب، ومن يضع يده على المريض ليفهم ما وراء النصوص. الكيف هنا أعمق من الكم، والفهم أصدق من الجمع.
هذا الإدراك يقودنا إلى لحظة الصمت التي تبدأ فيها البيانات بالتراجع، حين ندرك أن الحقيقة ليست في الأرقام فقط، بل في المقاصد التي تقف وراءها. فالآلة تتقن التنظيم والتحليل والتصنيف، لكنها لا تعرف لماذا ينبغي أن تُنظّم أو تُحلّل أو تُصنّف. لا تعرف الغاية، لأنها وُجدت لتخدم هدفًا لم تختره هي. هنا يكمن الفارق الجوهري بين الفهم الإنساني والذكاء الاصطناعي: الإنسان يفكر لأنه يسعى إلى المعنى، أما النموذج فيحسب لأنه بُرمج على البحث عن الأنماط.
وهكذا، مع كل إنجاز تحققه النماذج، يعود السؤال القديم بثوب جديد: ما الذي تبقى للإنسان حين تعرف الآلة كل شيء؟ الجواب: التجربة، والإحساس، والمسؤولية الأخلاقية. تلك الأبعاد التي لا يمكن اختزالها في قاعدة بيانات. فكما أن البحر لا يُختصر في ملوحته، كذلك الوعي لا يُختصر في بياناته. من البيانات تبدأ الحكاية، لكنها لا تكتب خاتمتها. والخاتمة، كما يبدو، لا تزال مُلكًا للعقل الذي يشعر، لا للعقل الذي يُحصي.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبد الرحمن الزراعي)
_______________
تصويت
هل كان الدرس واضحاً