الدرس الخامس: من الأوامر إلى الأمثلة: كيف علّم الإنسان الآلة أن تتعلّم
كان التحوّل من البرمجة اليدوية إلى التعلّم الآلي أشبه بانقلابٍ في طريقة فهم الإنسان للذكاء ذاته. في البدايات، كانت الآلة مجرد تابع مطيع، لا تفعل شيئًا إلا بأمر مكتوب بدقة. كانت كل خطوة فيها مرسومة بالحروف، وكل احتمال محدد مسبقًا. كانت تشبه كاتبًا لا يملك رأيًا، يكرّر ما أُملي عليه حرفيًا دون أن يسأل لماذا. هذا النمط من العمل كان كافيًا في زمن المهام البسيطة، حين كانت الحواسيب تُستخدم للحسابات والمحاسبة والتحليل الإحصائي المحدود، لكنه سرعان ما واجه استحالة التطبيق حين اصطدم بتعقيد الحياة.
ومع ازدياد الحاجة إلى أنظمة تتعامل مع الواقع المتغير، بدأ يظهر الخلل في فلسفة “الأوامر الدقيقة”. كان على المبرمج أن يكتب آلاف الشروط لتغطية كل حالة محتملة، وكلما زاد التعقيد تضاعفت الأخطاء. لم يكن ممكنًا أن نَصِف للآلة كل ما يمكن أن تراه أو تسمعه أو تواجهه. ومع هذا العجز ظهرت فكرة بَدَت حينها خيالية: لماذا لا نعلّم الآلة بدلًا من أن نأمرها؟ لماذا لا نتركها تكتشف العلاقات كما يفعل العقل البشري حين يرى مئات الأمثلة فيستنتج القاعدة بنفسه؟ كانت هذه هي لحظة التحوّل من البرمجة إلى المحاكاة، من التنفيذ إلى التعلّم.
وفي سبعينيات القرن الماضي بدأ هذا التحوّل يأخذ شكله العلمي مع ظهور ما سُمّي بالتعلّم الآلي. كان الهدف بسيطًا في بدايته: جعل الحاسوب يكتشف العلاقات داخل البيانات دون أن نخبره بها. ظهرت أولى النماذج التي تتعلّم من التجربة، مثل الأنظمة التي تُفرّق بين الرسائل المزعجة وغير المزعجة في البريد الإلكتروني، أو تلك التي تتعرف على الأرقام المكتوبة يدويًا، أو تقدّر أسعار البيوت بناءً على مساحة وموقع وخصائص كل منزل. لم يكن في هذه النماذج وعي أو إدراك، لكنها كانت تبني أساسًا جديدًا للعقل الاصطناعي: القدرة على التعلّم من المثال لا من الإملاءات المتكررة.
الفكرة الجوهرية بسيطة لكنها ثورية: بدلًا من كتابة القواعد يدويًا، نقدّم للآلة بيانات كافية لتستنتج القواعد بنفسها. هي ترى الأمثلة وتحاول إيجاد العلاقات بينها. فإذا نجحت في اكتشاف النمط الصحيح استطاعت التنبؤ بما سيحدث لاحقًا. تمامًا كما يتعلّم الطفل معنى كلمة “كرسي” بعد أن يرى مئات المقاعد في أوضاع وأشكال مختلفة، فتتشكل لديه فكرة عامة لا تتعلق بلونه أو حجمه، بل بالجوهر المشترك بين كل تلك الأشياء.
وبهذا المعنى، تغيّرت علاقة الإنسان بالآلة. لم يعد هو من يلقّنها كل شيء، بل أصبح مدرّبًا وموجّهًا، يقدم لها البيئة والمعطيات ويتركها تكتشف بنفسها. لقد انتقلت الآلة من كونها منفّذة إلى كونها متعلّمة، ومن كونها جامدة إلى كونها قابلة للتكيّف. في هذا التحوّل ولدت مفاهيم جديدة مثل دقّة النموذج، والخطأ في التنبؤ، والتعلّم الموجَّه وغير الموجَّه، وبدأت تظهر معادلات تحاول محاكاة ما يجري في الدماغ حين يتعلّم.
إن التعلّم الآلي غيّر جوهر العلاقة بين الإنسان والآلة، لأنّه فتح الباب أمام احتمالية أن تنمو الأنظمة الرقمية في قدرتها على الفهم دون إشراف مباشر. صحيح أنها لا تملك وعيًا، لكنها تملك شيئًا يشبه الحدس الإحصائي، فهي تجرّب وتخطئ وتعيد المحاولة إلى أن تصل إلى التوازن المطلوب بين الدقة والمرونة. هذا النوع من الذكاء ليس وليد أمر واحد، بل نتيجة آلاف المحاولات التي تُعيد تشكيل القاعدة حتى تتناسب مع الواقع الذي تراه في البيانات.
من هنا وُلدت الثورة الحقيقية في الذكاء الاصطناعي الحديث، لأنّ التعلّم الآلي أصبح القاعدة التي بُني عليها كل ما جاء بعده: من التعرّف على الوجوه إلى الترجمة التلقائية إلى المحادثات النصية الذكية. في كل هذه التطبيقات لم يعد المبرمج يكتب الخطوات واحدةً تلو الأخرى، بل يضع النظام داخل بيئة مليئة بالبيانات ويتركه يتدرّب. وكلما ازداد حجم البيانات وتنوّعت، ازدادت دقة النموذج.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبدالرحمن الزراعي)