الدرس الرابع: البيانات التي تصنع الوعي: كيف تتكوّن معرفة الآلة من أثر الإنسان
في جوهر كل ذكاء اصطناعي، هناك سر بسيط لكنه جوهري وهو: البيانات.
لا يمكن لأي نموذج أن يتعلّم أو يفهم أو يتوقّع أو يبدع ما لم يُغذَّ بالبيانات أولًا. هي ذاكرته الأولى وبيئته التي ينشأ فيها ومصدر وعيه بالعالم، فالعقل لا يصنع نفسه من العدم، والآلة لا يمكن أن تبني معرفتها دون مادة تتعلّم منها.
البيانات هي كل ما ينتجه الإنسان في يومه من أثر رقمي، سواء أكان كلمة مكتوبة في محادثة، أو صورة على موقع، أو تسجيلًا لصوت، أو موقعًا جغرافيًا.
هذه المواد المتناثرة من حياتنا اليومية تُجمع وتُنظَّم وتُعاد صياغتها لتصبح المادة الخام التي تنمو منها عقول الآلات. وكما يتعلم الطفل من العالم حوله عبر الملاحظة والتكرار والربط بين الأشياء، تتعلم الآلة بالطريقة نفسها لكنها بطريقة رقمية بحتة. كل صورة، كل جملة، كل صوت، هو تجربة تعليمية جديدة تضيف للنموذج نقطة في خريطته الإدراكية، فيتوسع وعيه الحسابي كلما زادت خبراته.
لكن ليست كل البيانات متساوية في القيمة، فكما أن الطفل لا يكوّن فهمًا سليمًا من مشاهد مشوّشة أو معلومات مضلّلة، كذلك الآلة.
إن جودة البيانات تحدد مستوى ذكاء النموذج، لأن الآلة لا تملك حدسًا أو وعيًا يصحّح لها أخطاءها، بل تتعلم مما يُقدَّم لها كما هو. فإذا كانت الصور مشوشة أو التوصيفات خاطئة فإنها ستتعلّم الخطأ. وهذا ما يجعل فحص البيانات وتدقيقها ونزع ما يشوبها من أخطاء وسَقْطات مرحلة حاسمة في بناء أي نموذج. فلو وُضِعت صورة كلب في مجموعة صور القطط، فإن النموذج قد يربط شكل الكلب بصفة "قطة"، وحين يرى لاحقًا قطة حقيقية سيتردد في تصنيفها. من هنا تولد الأخطاء التي تبدو لنا "ساذجة" لكنها في الواقع نتيجة مباشرة لسوء التغذية المعرفية.
الذكاء الاصطناعي يشبه الطالب الذي يعتمد على التكرار دون فهم، فإذا كررت عليه نفس الأمثلة مرات عدة فسيحفظها بدقة، لكنه سيعجز عن التعامل مع مثال جديد لم يره من قبل. هذا ما يُعرف في علم النماذج بـ"الانحياز للتكرار"، أو الإفراط في التعلّم من بيانات محدودة. هو انحراف يحدث حين يبالغ النموذج في التركيز على تفاصيل الأمثلة التي تكررت أمامه بدل أن يستوعب القاعدة العامة وراءها. النتيجة أن النموذج يصبح بارعًا في تكرار ما عرفه لكنه ضعيف في التعميم على ما لم يعرفه.
الذكاء ليس في الحفظ، بل في التمييز، والآلة لا تستطيع التمييز ما لم تتعرض لتجارب متنوعة ومتوازنة. فإذا دُرّبت على صور لقطة واحدة في نفس المكان والإضاءة، ستربط مفهوم "القطة" بلون الخلفية أو ظل الإضاءة لا بالهيئة الحيوانية نفسها. لكنها إذا رأت ألف قطة في أوضاع مختلفة وسياقات عدة ستتعلّم الجوهر المشترك بينها، أي الفكرة العامة التي تميّز القطة عن غيرها. هكذا يُبنى الفهم في العقل الاصطناعي: ليس من التكرار بل من التنوع.
البيانات إذًا ليست مجرد كمية، بل نوعية. فالنموذج لا يصبح أكثر ذكاءً بزيادة البيانات فقط، بل بجودتها وتوازنها وصدقها. إذا كانت البيانات منحازة أو ناقصة، فالنموذج سيعكس هذا الانحياز في قراراته. وإذا كانت غنية ومتنوعة ودقيقة، فسيقترب من الفهم المتوازن للعالم.
إن مهارة انتقاء البيانات هي التي تحدد شكل الوعي الذي ستكتسبه الآلة لاحقًا. فالبيانات المضلّلة تنتج وعيًا مضلّلًا، والبيانات الصائبة تنتج ذكاءً عادلًا.
من هنا يمكن القول إن رحلة الذكاء الاصطناعي تبدأ قبل أي كود أو خوارزمية، من لحظة جمع البيانات نفسها. في تلك اللحظة تُحدَّد طبيعة النموذج الذي سيولد لاحقًا، ما إذا كان دقيقًا أو منحازًا، متوازنًا أو مضطربًا. وكل خطأ صغير في هذه المرحلة يمكن أن يتحول إلى مشكلة ضخمة عندما يُبنى عليه نظام واسع يتعامل مع البشر أو يتخذ قرارات في التعليم أو الطب أو القانون. لذلك فإن فهم البيانات ليس مجرد مسألة تقنية بل مسؤولية معرفية وأخلاقية في آن واحد.
إن الذكاء لا يُخلق من فراغ. فكما يحتاج الإنسان إلى تجربة وبيئة وثقافة ليكوّن فكْرهُ، تحتاج الآلة إلى بيانات تمثّل العالم بعدله وتنوعه كي تفهمه. إننا حين نعلّمها من بياناتنا، نمنحها نسخة منّا، بكل ما فينا من دقة وأخطاء، من حكمة وتحيّز، من نور وظل. لذلك فإن الحديث عن الذكاء الاصطناعي هو في جوهره حديث عن الإنسان الذي يمدّه بالمعرفة، فالآلة لا تعرف إلا بقدر ما نعرف نحن، ولا ترى إلا ما نسمح لها أن تراه.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبدالرحمن الزراعي)