الدرس 03 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - النماذج
الدرس الثالث: 🧩 من الخوارزميات إلى النماذج – الجسر الذي تغيّر شكله
عندما نحاول تتبّع رحلة النماذج، لا نراها كقفزات مفاجئة بقدر ما نراها كخطوات متتابعة، يتحرك كل منها في أثر الآخر كما تتحرك طبقة طين فوق طبقة في يد نحّاتٍ يعرف أن الشكل لا يولد دفعة واحدة. يبدأ كل شيء من نقطةٍ بسيطة: تجريب خطّ يمكن أن يربط بين الأرقام، أو قاعدة يمكن أن تضبط مسار القرار. كانت النماذج الأولى تشبه رسّامًا يقف أمام لوحة بيضاء، يحاول أن يرسم الخط الأساسي الذي يحمل الشكل. خطّ مستقيم يلتقط علاقة، أو معادلة بسيطة تجيب عن سؤال: هل هذا ينتمي أم لا ينتمي؟ كانت واضحة، شفافة، تستطيع أن ترى المنطق كلّه في صفحة واحدة، لكن وضوحها كان أيضًا اعترافًا بحدودها؛ فهي لا تحلّق فوق المشهد إلا بقدر الخطّ الذي رسمته لها.
ومع الوقت، بدا أن العالم أكبر من أن يُختصر في خطّ، وأن الحقيقة ليست دائمًا محصورة داخل معادلةٍ ناعمة الحواف. حاول العلماء عندها الاقتراب من المنطق البشري ذاته: إذا حدث كذا فافعل كذا. قواعد مباشرة، لكنّها لا تعرف الطرق الملتوية؛ تعمل بصرامة، وتتوقف عند أول حالة لا تناسب قالبها. ومع ذلك، كان فيها شيء من الأمان: كل نتيجة يمكن تفسيرها. غير أنّ هذا الأمان كان ثمنه الجمود، وعدم القدرة على العبور نحو المشكلات التي تتطلب مرونة أو احتمالاً أو تقديرًا يخرج عن حدود الصرامة.
ثم جاء زمنٌ بدا فيه الجمع بين العالمين ضرورة لا ترفًا. لم تعد القاعدة وحدها تكفي، ولا الإحصاء وحده يُشبع حاجات المشهد، فظهرت النماذج الهجينة، كأنك تمسك بيدين مختلفتين وتحاول أن تجعلهما تعملان بتناغم واحد. يدٌ تضبط القواعد، ويدٌ تستكشف العلاقات الخفية التي لا تُرى بالعين وحدها. رأينا هذا في الطب، في الصناعة، في كل مجال تعجز القواعد وحدها عن أن تُمسك بكل التفاصيل، ويعجز الإحصاء وحده عن تفسير الحالات الشاذة. بدا الأمر خطوة إلى الأمام، لكنه كان أيضًا بابًا إلى تعقيدٍ جديد؛ فكل جزء من النموذج يحتاج إلى صيانة، وكل خيط يحتاج إلى ضبط حتى لا يتشابك مع غيره.
ثم حدث شيء مختلف تمامًا، شيء لا يشبه الخطّ ولا القاعدة ولا المزيج بينهما. كأنّ أحدهم قرّر أن يتوقف عن تعليم الآلة كيف تفكر، وأن يتركها تجرب وحدها. فظهرت الشبكات العصبية. لم تعد القواعد مكتوبة، ولم تعد العلاقات تُفرض عليها من الخارج. أصبح النموذج يجلس أمام آلاف الأمثلة، يتعلّم من ملاحظتها شيئًا فشيئًا. طبقةٌ ترى خطًا، وأخرى ترى لونًا، وثالثة ترى شكلًا كاملاً. ثم تأتي طبقات أعلى تجمع كل ذلك، لتكوّن فهمًا لا يشبه ما كتبه أحد، بل ما استخرجته الآلة من التجربة نفسها. كان الأمر أقرب إلى انتقال الفكر من سطح الورقة إلى عمق المشهد.
ومن هنا، تقدّمت النماذج خطوةً أخرى لم تكن متوقّعة. لم تعد الشبكات مجرد أدوات تصنيف أو تمييز، بل أصبحت تكتب، وتفسّر، وتَفهم اللغة كما تُفهم التجربة الإنسانية في ترابطها. ظهرت نماذج اللغة، ثم المحوّلات، ثم النماذج التوليدية التي لم تعد تكتفي بتقليد النص، بل تبنيه لحظة بلحظة، كما لو كانت تضع يدًا على الخيال ويدًا على المنطق. وهكذا بدا الطريق من الخوارزميات إلى النماذج كرحلةٍ من الصِّنعة إلى الفهم، ومن الخطّ إلى الصورة، ومن قاعدةٍ مكتوبة إلى عقلٍ رقمي يتشكّل وحده.
وفي هذا الجسر الطويل، لا تختفي الخوارزميات الأولى، بل تبقى في الخلفية كأرضٍ صُلبةٍ يمشي عليها كل ما يأتي بعدها. فالنموذج العميق -مهما كان مذهلًا- لا يزال يعتمد على الفكرة الأولى نفسها: أن هناك طريقة مّا لتحويل العالم إلى شيء يمكن التفكير به. وأنّ كل طبقة، مهما تعقّدت، ما هي إلا امتدادٌ لذلك الخطّ الأول الذي رسمه الإنسان وهو يحاول أن يفهم كيف يمكن لآلة أن ترى ما يراه هو.
مركز علوم الدولي (د. عبدالرحمن الزراعي)
_________
تصويت
هل الدرس مفهوم؟
نعم بكل تأكيد
نعم
بعض النقاط غير مفهومة
12 votes
6:05
17
8 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 03 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - النماذج
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by