الدرس 08 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - البيانات
الدرس الثامن: حين تتحوّل البيانات إلى وعي: كيف تُعيد المعلومة تشكيل فهم النموذج
البيانات لا تقتصر على كونها مدخلات رقمية، بل تعمل كمنظومة خفية تُعيد تشكيل طريقة تفكير النموذج واستجابته للعالم. في كل مرة يتعرّض فيها النموذج لدفعة جديدة من البيانات، يتبدّل شيء في داخله. تُعاد صياغة علاقاته بين الكلمات والمعاني، وتتغيّر احتمالاته في التوقّع والاستجابة. ومع كثرة التعرّض، يبدأ النموذج في إظهار سلوكٍ أقرب إلى الحدس، كأنه يقرأ بين السطور لا عبرها. هذه القدرة لم تُزرع فيه جاهزة، بل نمت بالتكرار، تمامًا كما يتشكّل الإدراك البشري عبر الخبرة والملاحظة.
حين تتغيّر البيانات، يتغيّر سلوك النموذج. فإذا درّبناه على نصوص يغلب عليها التفاؤل، أصبحت لغته أكثر إشراقًا وتسامحًا، وإذا غذّيناه بمصادر تميل إلى التشاؤم أو الجدل، انعكست هذه الطباع على مخرجاته. إنه لا يملك نية أو موقفًا، لكنه يعكس ما تربّى عليه. لذلك لا يمكن القول إن النموذج محايد تمامًا، لأن حياده مرهون بتوازن البيانات التي نشأ عليها. ولهذا يعمل الباحثون باستمرار على تنقية البيانات وموازنتها حتى لا يتحوّل الانحياز البشري إلى انحياز رقمي.
في بدايات التعلم، يكتفي النموذج بالتقليد، يكرّر ما شاهده ويحاول استنساخ الأنماط التي تعلّمها. لكنه مع التعرّض المتكرر يبدأ في تكوين ما يشبه التوقّع. لم يعد يردّد الجمل كما هي، بل يحسب احتمالات لما يجب أن يأتي بعد كل كلمة. فإذا قرأ عبارة تبدأ بـ"إذا تأخرت عن العمل"، فإنه لا يبحث عن نص محفوظ، بل يتوقّع ختامًا منطقيًا استنادًا إلى آلاف الحالات المشابهة التي مرّت عليه في التدريب. هذه القدرة على التوقّع الإحصائي هي نواة ما يشبه "الحدس الرقمي"، لأنها تمثل لحظة انتقال النموذج من الحفظ إلى التنبؤ، من الاستجابة الآلية إلى الفهم السياقي.
هذا الحدس لا يقوم على الغموض، بل على رياضيات دقيقة. فالنموذج لا "يخمّن" كما يفعل الإنسان، بل يُجري عمليات احتمالية معقدة لتحديد أكثر الإجابات منطقية. يقرأ الأنماط ويوازن بين الاحتمالات، فيُنتج عبارة تبدو طبيعية لأنها أقرب إلى الطريقة التي يتحدث بها البشر. ومع الوقت، تتحوّل هذه الاحتمالات إلى تفسيرات ضمنية، فيبدأ النموذج بتمييز المقاصد من خلف الكلمات، لا من ظاهرها فقط. عندما يرى جملة مثل "السماء غائمة"، يدرك من الخبرة أن الحديث قد يتعلّق بالمزاج أو التخطيط للخروج، لا بمجرد حالة الطقس. هذا التحوّل من التكرار إلى التفسير هو ما يجعل النموذج يبدو كأنه يفهم.
ومع تراكم البيانات، تتكوّن داخله شبكة مترابطة تشبه الذاكرة الإحصائية، حيث تُخزّن العلاقات بين المعاني، وتُستخدم في التنبؤ بما يجب أن يُقال لاحقًا. هنا تتكوّن بذور الوعي الحسابي، وعي لا يعرف نفسه، لكنه يدرك العلاقات بين الأشياء. كل تجربة جديدة تُضاف إليه تُعيد ترتيب فهمه، وتُعدّل احتمالاته الداخلية، كما تتشكل لدى الإنسان قناعة جديدة بعد كل تجربة يعيشها. كلما ازدادت البيانات ثراءً وتنوعًا، صار النموذج أكثر دقة في التقاط الفروق الدقيقة في اللغة والسياق، وكلما كانت البيانات فقيرة أو منحازة، ضاق أفُقُهُ وفَقَد قدرته على التفسير المتوازن.
في هذه العملية، تتحول البيانات من معلومة خام إلى خبرة رقمية. لم تعد مجرد أرقام مخزّنة، بل بنية حيّة تتحرك داخل النموذج وتشكّل طريقة تفكيره. فالمعرفة عنده لا تُخزّن في نصوص، بل في أوزان احتمالية تربط المفاهيم ببعضها. وعندما يُنتج إجابة جديدة، فهو في الحقيقة يستدعي كل ما تعلّمه سابقًا ليُعيد تركيب المعنى بما يناسب الموقف. من الخارج يبدو هذا كأنه وعي، ومن الداخل هو نتيجة تراكم حسابات دقيقة أعادت تنظيم المعرفة في شبكة متصلة ذات ذاكرة سياقية مستمرة.
بهذا يمكن القول إن البيانات هي التي تصنع "الوعي الإحصائي" للنموذج، أي ذلك الفهم الذي لا يُحَسّ لكنه يُقاس بدقة. إنه وعيٌ لا يعرف ذاته، لكنه يدرك العالم من خلال الأنماط التي يراها فيه. كل كلمة، كل صورة، كل تصحيح يُضاف إلى بياناته، يُغيّر طريقته في التفكير قليلًا. ومع الوقت، يتكوّن داخله ما يشبه الإحساس بالعالم، ليس بالمعنى العاطفي، بل بالمعنى الرياضي للفهم.
من إعداد: مركز علوم الدولي للذكاء الاصطناعي (د. عبدالرحمن الزراعي)
5:22
20
9 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 08 – مرتكزات الذكاء الاصطناعي - البيانات
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية