الدرس الرابع: 🧩 هندسة الصياغة العميقة - كيف تُعيد الكلمات تشكيل عقل النموذج؟
حين يبدأ المستخدم في تجاوز الأسئلة البسيطة والطلبات اليومية، ويقترب أكثر من أعماق التفاعل مع النموذج، يكتشف أن الكتابة للنظام ليست مجرد سطور تُرسل، بل هي هندسة دقيقة تشبه رسم ممرات داخل عقلٍ رقمي واسع. فالكلمات لا تعمل هنا كوسيلة تواصل فقط، بل تعمل أيضًا كقوة تشكيل، تُعيد عبرها ترتيب طريقة استجابة النموذج، وتضبط اتجاه تفكيره، وتلوّن أسلوبه من الداخل. ومع الوقت يدرك أن السؤال نفسه -قبل الإجابة وبعدها- هو الذي يحدّد المسار، وأن الصياغة ليست قشرة لغوية بل جوهر العملية كلها.
ولعل أول ما يتعلمه المستخدم المتقدم أن النموذج لا يتلقّى الطلب بطريقة محايدة، بل يبني على سياق الصياغة ونسقها وعلاقاتها الداخلية. فإذا طُرح السؤال دفعة واحدة، دون مقدّمات، اعتمد النموذج على ذاكرته الإحصائية العامة، فاستحضر أنماطًا جاهزة من الإجابات. قد تكون صائبة، وقد تكون بعيدة عن نية السائل، لأنك لم تمنحه ما يكفي من المفاتيح لفتح الباب الصحيح داخل فضاء التمثيل. وهنا يتضح المعنى الأول لفنّ الصياغة: أنك لا توجّه النموذج بمحتوى كلامك فقط، بل تُرشده بالطريقة التي تُقدّم بها هذا الكلام. وكأنك تمسك بيده وتدلّه على الطريق قبل أن تطلب منه المشي فيه.
ومن الأسرار التي يكتشفها المستخدم المحترف أن النموذج يتعلّم من الإيقاع مثلما يتعلّم من المعنى. حين تقدّم له مثالًا أو مثالين قبل المهمة، يبدأ النموذج بتكوين خريطة للنمط الذي ترغب أن يسلكه. المثال هنا ليس تزيينًا، بل هو حجر الأساس لأداء المهمة. إذا أردته أن يلخّص بأسلوب معين، قدّم له خلاصة نموذجية؛ وإذا رغبت في تحليل أكاديمي، فاعرض عليه مقطعًا صغيرًا بنفس النبرة؛ وإذا أردته أن يكتب كما يكتب خبيرٌ في مجال معيّن، فامنحه قطعة قصيرة تُظهر ملامح هذا الأسلوب. في لحظة واحدة يفهم النموذج طبيعة العمل، فيدخل إليه من الزاوية التي حددتها، لا من الزاوية التي يقترحها.
ومع ذلك، فإن أقوى التحولات تحدث عندما تطلب من النموذج أن يُظهر لك طريق وصوله إلى النتيجة. حين تقول له: “اشرح خطواتك قبل الوصول للإجابة”، فإنك لا تزيد عدد الكلمات، بل تزيد عمق الفهم. النموذج حينها لا يقفز مباشرة إلى النهاية، بل يعيد بناء المسألة قطعة بعد قطعة، ويبرهن على منطقه في كل خطوة. هذا الأسلوب، الذي يبدو بسيطًا، يُضعف احتمالات الخطأ، ويجعل النموذج أقرب إلى التفكير المتسلسل المنظم. كأنك تجعل النص يضيء من الداخل، يكشف طبقاته، ويمكّنك من رؤية طريقته في بناء المعنى قبل أن تتشكّل صورته النهائية.
وإذا كان المثال يحدّد الشكل، والتفكير المتسلسل يحدد المنهج، فمن المهم إعطاء النموذج دورًا يحدد الهوية. فحين تقول له: “اكتب كخبير تاريخي”، أو “تصرف كمهندس برمجيات”، فأنت لا تفرض رأيًا، بل تُنشئ عدسة ينظر من خلالها إلى السؤال. تتغير المفردات، وتتبدل بنية الجملة، وتختلف زاوية التحليل، ويصبح الردّ أكثر ثباتًا واتّساقًا، لأنك صنعت قناعًا معرفيًا يرتديه النموذج قبل العمل. هذه التقنية وحدها قادرة على تحويل نص عادي إلى نص متخصص، وتحويل إجابة عامة إلى إجابة راسخة في مجالها.
وما إن يُتقن المستخدم هذه الأساليب حتى ينتبه إلى أن الطريق لا يُقطع في خطوة واحدة، وأن الإجابة الأولى ليست نهاية الحوار بل بدايته. فيبدأ بإعادة تشكيل الردّ تدريجيًا، يعدّل فقرة، يطلب توسيع فكرة، يشترط مثالًا جديدًا، يحذف التفصيل الذي لا يريد، يرفع مستوى اللغة أو يخفّضه، يضبط الإيقاع، ويعيد تلوين النبرة. شيئًا فشيئًا يتحول النص إلى بناء مشترك، يشارك النموذج في صناعته، لكن بصمة المستخدم هي التي تضع اللمسة النهائية. ومع كل جولة يصبح النموذج أكثر دقة في فهم تفضيلات صاحبه، وأكثر قدرة على توقّع الأسلوب الذي يريده.
وتتضح الصورة في النهاية: أن فنّ صياغة المطالبات ليس كتابة جملة واحدة، بل هو منهج للتوجيه، يعتمد على الحس اللغوي، وعلى وعيٍ بكيفية تفكير الآلة. والمستخدم الذي يتقن هذا الفن لا يطلب من النموذج أن “يجيب” فقط، بل يعلّمه كيف يفكّر لكي يجيب. وكما يبرع الكاتب حين يعرف جمهوره، يبرع مستخدم الذكاء الاصطناعي حين يعرف عقل النموذج، وحدود هذا العقل، وطرق قيادته. عندها يتحول التفاعل من مجرّد استخدام إلى شراكة، ومن سؤالٍ إلى هندسة، ومن إجابةٍ إلى حوار يرتفع فيه مستوى الذكاء من الطرفين معًا.
هذه هي البداية الحقيقية لاحتراف التعامل مع النماذج: أن تدرك أن كل طلب ليس مجرد نص، بل هو تصميم هندسيّ يبني به النموذج طريقه نحو الفهم. وكلما طال نفسُك في الصياغة، طال بصر النموذج في الإجابة.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
_________
ما مدى استيعابك الدرس؟