الدرس الثالث: فن صياغة المدخلات – كيف تكتب أمرًا يفهمه الذكاء الاصطناعي بدقة؟
حين يبدأ الإنسان حديثه مع الذكاء الاصطناعي، يظن في البداية أن الأمر لا يحتاج إلا إلى جملة تُلقى على الواجهة، وأن النموذج قادرٌ على فهمها كما يفهمه بشرٌ يشاركه التجربة والحياة. غير أنّ أولى المحاولات تكشف أن اللغة وحدها لا تضمن الفهم، وأن الجملة التي تبدو واضحة في ذهنك قد تصبح غامضة حين تعبر إلى عالم الآلة، لأن النموذج -مهما بدا قريبًا- لا يعيش تجربتك الشعورية، ولا يشاركك خلفيتك المعرفية، بل يعتمد اعتمادًا كاملًا على ما تكتبه أنت وما توضّحه أنت وما تحدّده أنت.
ومن هنا تظهر أهمية صياغة المدخلات. فهي ليست مجرد جملة تُرسل إلى النظام، بل هي الباب الذي تمرّ منه نيتك ويعبر منه قصدك، والمرآة التي تعكس ما تريد الوصول إليه. فإذا كانت الصياغة مضطربة أو مقتضبة أو مفتوحة بلا حدود، وجد النموذج نفسه أمام احتمالات كثيرة، وكل احتمال منها قد يقود إلى جواب لا يشبه ما تبحث عنه. أما إذا كانت الصياغة محكمة، واضحة، محددة الملامح، صار الطريق أمام النموذج مستقيمًا، وصارت الإجابة أقرب إلى ما تريد وتنتظر.
يبدأ فن صياغة المدخلات من هذا الإدراك البسيط: “النموذج لا يقرأ النيات، بل الكلمات.” فما لم تُصَغ عبارتك في كلمات واضحة، سيبقى النموذج يبحث عن تفسيرٍ مناسب لها، وربما يختار الطريق الذي لم تفكر فيه أصلًا. ولهذا يصبح اختيار العبارة المناسبة خطوةً تشبه ضبط عدسة الكاميرا قبل التقاط الصورة؛ إن لم تُضبط العدسة، خرجت الصورة مشوشة مهما كانت الإضاءة مثالية.
وكما يبني الحرفُ الكلمةَ، تبني الكلمةُ الطلبَ. وكل طلبٍ متقن يقوم على أربعة أعمدة: الأول: وضوح الهدف. ماذا تريد تحديدًا؟ شرحًا؟ مقارنة؟ تحليلًا؟ كتابة؟ تحريرًا؟ رأيًا؟ كل طلبٍ لا يحمل هدفًا صريحًا سيضطر النموذج إلى تخمينه، والتخمين هو الطريق الأقصر إلى الخطأ. الثاني: تحديد النطاق. ما الذي يدخل في المهمة وما الذي يُستثنى؟ هل تريد مثالًا عربيًا أم عالميًا؟ هل تريد التركيز على جانب واحد أم تغطية شاملة؟ كلما ضاق النطاق، اتسعت دقة النتائج. الثالث: السياق. من الجمهور المتوقع؟ مبتدئ أم متخصص؟ أي أسلوب تفضّله؟ رسمي أم سردي؟ هل هناك مستوى لغوي معين؟ الرابع: شكل المخرجات. هل تريد فقرة واحدة؟ أم تقريرًا؟ أم نقاطًا مختصرة؟ أم سردًا طويل النفس؟ النموذج قادر على كل ذلك، لكنه ينتظر منك أن تحدد أي طريق يسلك.
ولكي تتضح الصورة أكثر، تأمل المثال التالي: إذا قلت للنموذج: “اكتب عن الطاقة الشمسية.” فستأتيك إجابة عامة، متفرقة، ربما لا تلبي ما تريد. لكن حين تقول له: “اكتب ثلاث فقرات موجزة تشرح المفهوم، وتعرض الفوائد البيئية، وتقدّم تطبيقًا واقعيًا في السعودية، بلغة عربية فصيحة موجهة للمبتدئ.” فإنك لا تكتب طلبًا فحسب، بل ترسم خريطة كاملة للجواب: عدد الفقرات، موضوع كل فقرة، الأسلوب، الجمهور، والحيز الجغرافي. وعندها يضيق طريق التخمين، ويتسع طريق الفهم.
وهكذا تتبيّن الأخطاء التي يقع فيها كثير من المستخدمين: طلبات عامة بلا هدف، أو مصطلحات ملتبسة بلا تفسير، أو غياب كامل للسياق، أو رغبة في نص محدد دون ذكر شروط بنائه. هذه الأخطاء تجعل النموذج كمن يتلقى رسالة ناقصة، يحاول أن يجبر نقصها بالظن، فيأتي الجواب بعيدًا عن القلب الذي كتب السؤال.
ولأن التفاعل مع النماذج الذكية لا يتوقف عند طلب بسيط، بل يتسع لمهام مركّبة وطويلة، كان لا بد من استراتيجية تساعد على التعامل مع الأهداف الكبيرة. وأبسطها أن تجزّئ الهدف إلى مراحل. تطلب تحليلًا طويلًا؟ ابدأ بتحديد الهدف، ثم القيود، ثم اطلب اقتراح ثلاثة مسارات للحل، ثم اطلب المفاضلة بينها، ثم اطلب الخلاصة النهائية. هذه الخطوات ليست تعقيدًا، بل تنظيم يفرض على النموذج أن يفكّر بطريقة منهجية، ويمنع ارتباكه حين يُلقى عليه هدف ضخم دفعة واحدة.
أما الأسلوب والنبرة -وهما عنصران خفيان- فلهما أثر كبير في شكل النتيجة. فإذا أردت لغة فصيحة واضحة، أو سردًا طويل النفس، أو إيقاعًا وصفيًا، أو التزامًا ببنية محددة، فعليك أن تقول ذلك منذ البداية. النموذجُ يملك القدرة على التكيّف، لكنه لا يتغير تلقائيًا إلا حين تطلب منه التغيير بوضوح.
يمكن أن تجد نفسك أحيانًا غير متأكد من المصطلح المناسب، أو غير قادر على تحديد ما تحتاجه بدقة. وفي هذه الحالة، لا بأس أن تمنح النموذج الإذن بأن يستوضح منك قبل البدء، بأن تقول له مثلًا: “إذا كان المطلوب غير واضح، فاسألني سؤالًا واحدًا للتوضيح.” هذا الاستفهام الافتتاحي الصغير يختصر كثيرًا من الالتباس، ويعيد توجيه المهمة نحو الهدف الصحيح قبل أن تبدأ عملية المعالجة.
فن صياغة المدخلات ليس مجرد مهارة إضافية، بل هو المفتاح الذي يحوّل النموذج من أداة عامة إلى شريكٍ في التفكير. فكلما أحسنت التعبير عن نيتك، أحسن النموذج التعبير عن جوابه. وكلما كان الطلب واضحًا، كان الفهم أعمق، وكانت النتيجة أقرب إلى الصورة التي رسمتها في ذهنك.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
__________
ما مدى استيعابك الدرس؟