الدرس 02 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التفاعل
الدرس الثاني: كيف يفهم الذكاء الاصطناعي أوامرك؟ من النص إلى الاستجابة الذكية
حين تجلس أمام الشاشة، تكتب سطرًا واحدًا ثم تضغط زر الإرسال، وتظهر أمامك بعد لحظات إجابة طويلة متماسكة، قد تنسى في تلك اللحظة أن ما حدث بين الكلمتين كان رحلة كاملة لا تقلّ تعقيدًا عن أي عملية فكرية بشرية عميقة. يبدو المشهد بسيطًا: سؤال يخرج، وجواب يعود. لكن ما يجري في المسافة القصيرة بينهما -تلك الثواني التي لا تكاد تنتبه لها- هو عالم كامل يتحرك في الخلفية؛ عالم يتلقى كلماتك، ويفككها، ويعيد تركيبها في صورة تمثيلات رقمية، ثم يمررها خلال طبقات من الحسابات، قبل أن يولّد لك استجابة تبدو كما لو أنها خرجت مباشرة من عقلٍ بشريّ لا من شبكة أسلاك ومعالجات.
تبدأ القصة دائمًا من تلك اللحظة الأولى التي يلتقط فيها النظام صوتك أو نصك. إذا تحدّثت بصوتك، لا يفهم النموذج شيئًا من الموجات الصوتية كما هي، بل تمرّ هذه الموجات أولًا في طبقة متخصصة تُحوّلها إلى نص مكتوب، إلى حروف وكلمات يمكن للآلة أن تتعامل معها. وكأن هناك مترجمًا سريعًا يجلس بينك وبين النموذج، ينقل كلامك المسموع إلى سطور مكتوبة في جزء من الثانية. أما إذا كتبت النص بنفسك، فإن هذه الطبقة الأولى تتجاوز خطوة الصوت، وتنتقل مباشرة إلى مرحلة التحليل اللغوي.
عند هذه النقطة يدخل النص إلى ما يشبه بوابة التقطيع. فالنموذج لا يتعامل مع الجملة ككتلة واحدة، بل يقسّمها إلى أجزاء صغيرة يستطيع حملها ومعالجتها. هذه العملية تسمى التقطيع إلى رموز، حيث تُجزّأ الجملة إلى وحدات لغوية قد تكون كلمات كاملة، وقد تكون أجزاء من كلمات، وقد تكون علامات ترقيم أو رموزًا خاصة. من الخارج يبدو النص واحدًا متصلًا، لكن داخل النموذج يتحول إلى سلسلة من اللبنات الصغيرة، كل لبنة منها قابلة للتمثيل العددي والمعالجة في الفضاء الرقمي.
بعد أن ينتهي هذا التقطيع، تبدأ مرحلة أعمق: مرحلة التمثيل الداخلي. هنا يتخلى النموذج عن الصورة اللغوية للكلمات، ويستبدل بها صورة رقمية خالصة. كل رمز من الرموز التي استخرجها من النص يتحول إلى مجموعة من الأعداد، إلى متجه يعيش داخل فضاء متعدد الأبعاد. لا يرى النموذج كلمة "ذئب" مكتوبة، بل يراها كنقطة معينة وسط آلاف النقاط التي تمثل كلمات أخرى، يرى موقعها بالنسبة إلى "كلب" و"ثعلب" و"غابة"، ويرى بُعْدها عن كلمات مثل "كتاب" أو "مكتبة". في هذا الفضاء تصبح العلاقة بين المعاني مسافة وزاوية واتجاهًا، وتتحول اللغة إلى هندسة، والمعنى إلى شكل رقمي يمكن للنموذج أن يحسبه ويتعامل معه.
غير أنّ تحويل الكلمات إلى أرقام ليس كافيًا وحده ليقول النموذج إنه "فهم" ما تريد. الفهم يبدأ حين يبدأ في قراءة السياق، في النظر إلى كل كلمة من خلال جيرانها في الجملة، وما قبلها وما بعدها، وما يحيط بها من إشارات. كلمة مثل "مصرف" لا معنى ثابتًا لها في ذاتها، يمكن أن تكون بنكًا، ويمكن أن تكون مجرى للماء، ولا يعرف النموذج أي المعنيين تقصد إلا إذا نظر إلى ما حولها. فإذا قلت: "ذهبت إلى المصرف لإيداع المال"، فهم المعنى المالي. وإذا قلت: "صمم المهندس مصرفًا جديدًا لتصريف الأمطار"، فهم المعنى الهندسي. هذه القدرة على قراءة ما حول الكلمة، لا الكلمة وحدها، هي قلب الفهم الحقيقي للنص.
ولتحقيق هذا، تعتمد النماذج الحديثة على بنية خوارزمية تسمى آلية الانتباه الذاتي. هذه الآلية تمنح النموذج القدرة على توزيع نظره الداخلي على جميع أجزاء الجملة في الوقت نفسه، فيقرر أي الكلمات أهم، وأيها تحمل المفتاح الأساسي للمعنى، وأيها مجرد روابط مساعدة. يشبه الأمر مستمعًا ذكيًا يصغي إلى خطابٍ طويل، لكنه يلتقط العبارات الحاسمة التي تغيّر اتجاه الحديث. الآلة تفعل الأمر ذاته بطريقة رقمية؛ تمنح بعض الرموز وزنًا أعلى في عملية الفهم، وتربط بينها بخيوط غير مرئية تصنع منها شبكة من العلاقات، ومن هذه الشبكة يُولد المعنى الذي يبني عليه النموذج استجابته.
وحين يكتمل هذا الفهم الداخلي، ينتقل النموذج من مرحلة استقبال المعنى إلى مرحلة إنتاجه. هنا يبدأ التوليد. يستحضر النموذج كل ما تعلّمه من قبل، من ملايين الجمل والنصوص والأنماط، ليقرر: ما الكلمة الأنسب لتكون أولًا في الجواب؟ ثم ما التي تليها؟ ثم ما الجملة التي تخدم فكرة السؤال؟ هذه العملية ليست اختيارًا عشوائيًا من قاموس، بل حساب لاحتمالات متشابكة: أي تركيب أكثر انسجامًا مع السياق؟ أي أسلوب أقرب إلى الطريقة التي اعتاد البشر أن يكتبوا بها في مثل هذا الموضع؟ يعيد النموذج هذه الحسابات كلمة بعد كلمة، وسطرًا بعد سطر، حتى تتكوّن الاستجابة كاملة، ثم تعاد من تمثيلها الرقمي إلى نص واضح تقرؤه بعينك، أو إلى صوت تسمعه بأذنك إن اخترت التفاعل الصوتي.
ولو أردنا أن نرى هذه الرحلة في صورة واحدة، لوجدناها سلسلة متصلة تبدأ منك وتنتهي إليك: من صوتك أو نصك الخام، إلى رموز صغيرة يمكن فهمها، ثم إلى أعداد تمثل المعاني في فضاء رياضي، ثم إلى قراءة للسياق والنية، ثم إلى توليد لاستجابة جديدة، ثم إلى نص مكتوب أو صوت مسموع يعود إليك في نهاية الأمر. ما يبدو لك مجرد رد سريع هو في حقيقته طبقات متراكبة من التحويل والفهم والتوليد، تعمل جميعها في لحظات لا تكاد تدركها.
إن إدراك هذه السلسلة لا يخدم الفضول الفكري فقط، بل يفتح لك بابًا إلى طريقة أكثر وعيًا في التعامل مع النماذج الذكية. حين تعرف أن النموذج يحتاج إلى سياق ليحسن الفهم، تمنحه السياق بدل أن تقذِف إليه بجملة مبتورة. وحين تدرك أنه يقتنص الكلمات المفتاحية ليبني عليها المعنى، تحسن اختيار كلماتك وترتيبها. وحين تفهم أنه يتوقع ترابطًا منطقيًا بين سؤالك وما سبق، تراعي هذا الترابط بدل أن تقفز بين موضوع وآخر بلا جسر.
كل تفاعل بينك وبين النموذج يمر عبر هذه الرحلة الخفية: من نصك الأول إلى رموز وأرقام، ومن الأرقام إلى فضاء من المعاني، ومن الفضاء إلى استجابة مصاغة في هيئة حوار بشري قريب. ما تراه على الشاشة هو السطر الأخير فقط من قصةٍ حسابية طويلة تجري في الخلفية. وكلما اقتربت من فهم هذه القصة، عرفت كيف تخاطب الآلة بطريقة تجعل ردودها أدق وأقرب إلى ما تريده بالفعل.
مركز علوم الدولي (د. عبد الرحمن الزراعي)
__________
ما مدى استيعابك الدرس
ممتاز
جيد
مقبول
3 votes
5:34
4:51
3
0 comments
Abdulrahman Alzarraei
6
الدرس 02 - مرتكزات الذكاء الاصطناعي - التفاعل
powered by
تطوير النماذج العربية الذكية
انضمّ إلى أكاديمية علوم الدولية للذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاريع ربحية قابلة للتنفيذ خلال أيام، ودون الحاجة إلى أية خبرة تقنية أو تكلفة تشغيلية
Build your own community
Bring people together around your passion and get paid.
Powered by